بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آل بيته وصحبه ومن والاه
ثم أمابعد:
فقد ذم اللهِ عزو جلّ في كتابه أهل التضليل والتلبِيس والتحريف ، إمّا بنصِّ الكلِمة نفسِها أو بمشتقَّاتها ومعانيها ، وذكر الله سبحانه أحوال أهلِ الكتابِ وكيف حرفوا في دينهم ودسوا في شريعتِهم ما لَيسَ مِنها فقالَ الله عزوجل عَنهُم:
( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ )
[البقرة: 78، 79]
وَقَالَ:
( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )
[آل عمران: 78]
وحذرهم فقال:
( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )
[البقرة: 42]
ثم قال:
( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )
[آل عمران: 71]
وقال ابن مسعود رضي الله عنه:
( كيف بكم إذا لبِستكم فتنةٌ يربو فيها الصغير، ويهرمُ فيها الكبير، وتُتَّخَذ سنّة ، فإن غُيِّرت يومًا قيل: هذا منكَر ) ، قالوا: ومتى ذلك؟ قال: ( إذا قلَّت أمناؤكم ، وكثُرت أمراؤكم ، وقلَّت فقهاؤكم ، وكثُرت قُرّاؤكم ، وتُفُقِّه في غير الدّين ، والتُمِست الدنيا بعمل الآخرة )
[رواه عبد الرزاق (11/359)]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مقدمة في أصول التفسير) :
" والعلم إما نقل مصدق عن معصوم ، وإما قول عليه دليل معلوم ، وما سوى هذا فإما مزيف مردود ، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود " .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"مَن كتم الحقَّ احتاج أن يقيمَ موضعَه باطلاً ، فيلَبس الحقَّ بالباطل ، ولهذا كان كلُّ من كَتَم من أهل الكتابِ ما أنزل الله فلا بدّ أن يظهرَ باطلاً"
[مجموع الفتاوى 7/172-173]
قال العلامة الشيخ محمد الخضر حسين المتوفى سنة 1377 هـ - رحمه الله تعالى -:
( صلاح الأُمة في صلاح أَعمالها , وصلاح أَعمالها في صحة علومها , وصحة علومها أَن يكون رجالها أُمناء فيما يروون أَو يصفون , فمن تحدث في العلم بغير أَمانة فقد مس العلم بقرحة , ووضع في سبيل فلاح الأُمة حجر عثرة.
لا تخلو الطوائف المنتمية إَلى العلوم من أَشخاص لا يطلبون العلم ليتحلوا بأَسنى فضيلة , أَو لينفعوا الناس بما عرفوا من حكمة , وأَمثال هؤلاء لا تجد الأَمانة في نفوسهم مستقراً , فلا يتحرجون أَن يرووا ما لم يسمعوا , أَو يصفوا ما لم يعملوا , وهذا ما كان يدعو جهابذة أَهل العلم إِلى نقد الرجال , وتمييز من يسرف في القول ممن يصوغه على قدر ما يعلم , حتى أَصبح العلماء على بصيرة من قيمة ما يقرؤونه فلا تخفى عليهم منزلته , من القطع بصدقه أَو كذبه , أَو رجحان أَحدهما على الآخر , أَو احتمالهما على السـواء )اهـ.
وامتداداً لهذا الحبل الموروث , شَهَرَ العلماء – من المفسرين والمحدثين , والفقهاء , والأُدباء , والمؤرخين , وغيرُهم قَوْلَةَ الحق في كتبهم الكاشفة عن خلائق أَقوام في السطو , والانتحال , والكذب والتلبيس, والاختلاق:
في نقل , أَو مسأَلة , أَو رسالة , أَو كتاب , وهكذا ...
ومن تتبع الإَنتاج العلمي عَلِم.
هكذا كان دأب أٌمناء الشريعة , لكن إِذا دب إِلى الأُمة داء الغفلة , وضعف عامل الولاء والبراء , والحب والبغض في الله , وامتد التراخي عن التحذير من قطاع الطريق:
تسورت النخالة حرم العلم الشرعي تخب فيه وتضع.
إِلاَّ أَن هذه الأُمة المرحومة يتوالى فضل الله عليها
فما يزال المنهج السوي شارعاً في حياتها , تلوح منه سطور التيقظ والتذكير , والتنبيه والتحذير , على أَيدي علمائها الأُمناء , تحذيراً ممن مس العلم بقرحة فأَخل بأَمانة العلم , أَو خاض فيه من لم يتحمله , ولم يلجأ منه إِلى ركن وثيق.
وليعلم كل مسرف على نفسه أَن عليه من أَلسنة الخلق حسيباً , ومن أَعينهم رقيباً , ومن أَقلامهم متابعاً.
وفي خط الدفاع من العلماء عن حرم العلم الشرعي , والذود عنه ترى وتسمع ردوداً فاضت على أَسلات أَلسنتهم , وأَسنة أَقلامهم .
( رسائل الإِصلاح 1/13)
وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في الردود:
"ومن خان في نقل كلام عالم ، وقوَّله ما لم يَقُل ، أو لَبَّس فيه ببتر ونحوه: فهذا ضرب من التحريف والخيانة وهكذا من ضروب قصد التحريف حاشا الغلط والوَهْم.."
وقال في رده علي الصابوني:
"ومن حاله كذلك , فعند السلف: لا يجوز أَن يعتمد في علم ولا نقل , فعلى كل مسلم بعامة وكل طالب علم بخاصة , عدم اقتناء كتبه , أَو العزو إِليها لأَنها مما اختلط فيها الحق بالباطل , والجهل بالعلم , والنقل الصحيح بالنقل المحرف".
وكتبه الفقير إلي الله
محمدبن عوض بن محمد بن عبدالغني المصري
ثغر الإسكندرية