قصة قصيره من تاليف : الزمان الحاظر
في إحدى ليالي الشتاء القارصة , وفي تلك البلدة الحالمة الجميلة , والتي تقع بالقرب من المدينة , والليل يسوده السكون , الهدوء يخيم على المكان إلا من بعض أصوات السيارات القليلة العابرة والمتجهة إلى خارج البلدة , الساعة تشير إلى الواحدة والنصف بعد منتصف الليل , وفي طرف البلدة يقع ذلك المنزل الرائع... تحيطه أشجار الصنوبر العالية , جميع أهل المنزل يغطون في النوم .. يستعدون لبداية يوم جديد مشرق , فجأة... يرن جرس الهاتف ليقضي على لحظات السكون والهدوء , يرن مرة أخرى... وثالثة... ورابعة ...ينهض هيثم بتثاقل مع تثاؤب ..ينظر إلى الساعة : من الذي يتصل بنا في هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟..اللهم اجعله خيراً..يذهب إلى الهاتف بالصالة...يرفع السماعة ويداه ترتجفان من البرد : ألو ...ألو ..من المتكلم ؟ وفي الطرف الآخر يكون الصوت أكثر وضوحاً : السلام عليكم....أنت هيثم فؤاد ؟ ـ نعم أنا هو ..من أنت وماذا تريد ؟ , ـ ويأتي الرد سريعاً : حسناً ..ألك ابن اسمه فؤاد ؟ ـ هيثم والقلق بدأ يساوره : فؤاد ..نعم ..نعم... ماذا حدث .. , ـ معك شرطة البلدة لقد وقع حادث مروري على ابنك وثلاثة شبان معه على الطريق السريع شمال البلدة وعليك أن تحضر حالاً ...., هيثم غير مصدقاً من هول الصدمة !!!.ـ ماذا.. حادث ..أين.. ؟ كيف ؟ ..ابني ..ماذا حدث لابني ؟ أرجوك اخبرني أيها الرقيب ..هل أصابه مكروه ؟ ...لا حول ولا قوة إلا بالله..... وفي الطرف الآخر : اهدأ اهدأ يا سيد هيثم .. أنت رجل مؤمن بالقضاء والقدر ويجب أن تتمالك أعصابك ..سيارة ابنك احترقت بالكامل رغم محاولاتنا المريرة إطفائها , وللأسف الشديد لم ينجو من الحادث سوى شاب واحد أصابته طفيفة.. ونقل للمستشفى لإسعافه من حالة الإغماء التي حدثت له من جراء الحادث.. وأثناء تفتيشنا للأوراق المحترقة بالسيارة عثرنا على رقم هاتفك برخصة ابنك......ونريدك أن تحضر حالاً لتتعرف على الجثث الثلاث..هل ابنك من ضمنهم ؟ هيثم... يحاول تمالك نفسه من هول الصدمة والمفاجأة وكأنه في كابوس مرعب : رباه.... رحمتك ..إنا لله وإنا إليه راجعون ...ما هذه المصيبة رحمتك يارب ...يرمي بسماعة التلفون مسرعاً نحو دولاب الملابس داخل غرفة النوم ليبدل ثيابه ..الزوجة تصحو على صوته وهو يتمتم بكلمات : هيثم ماذا بك يا رجل وإلى أين أنت ذاهب في هذه الساعة المتأخرة ؟ هيثم مسرعاً : سأخبرك فيما بعد ....( كيف لو علمت هذه المسكينة بما حصل لابنها ؟) يقول في نفسه ....يخرج مسرعاً ليستقل سيارته الفارهة ذات اللون الأحمر الغامق , فهيثم يعمل مديراً لأحدى الشركات الكبرى ويتقاضى راتباً كبيراً ويعيش هو وعائلته حياة رغده ...يدير هيثم محرك سيارته وينطلق مسرعاً نحو موقع الحادث تسابقه هواجس نفسه وظنونه المتشائمة بان ابنه من بين الذين قضوا في الحادث ..وفي دقائق اليأس والقنوط..ووسط كوابيس الخيال السيئة ..يذكر الله عز وجل ..فتلوح في الأفق بارقة الأمل من جديد... ويرفع نظره في السماء داعياً الله بان يكون فؤاد ذلك الشاب الذي نجا من الحادث .. وبينما هو في هذه الخواطر والهواجس ...يتذكر ابنه فؤاد ويستعرض شريط الذكريات ومقدار الحب الذي كان يحمله له فقد كان فؤاد الولد الوحيد له وسط أربع بنات ...فأخذ كل الحب والدلال...ثم يتذكر كيف كان يلبي جميع رغباته وطلباته ....وفي هذه الأثناء بدأ مؤشر السرعة يزيد... يزيد ...يصل إلى 160 كلم وهيثم ما زال يتمتم بكلمات فيها الإيمان والاستسلام لله ولقدره وأنه لا بد للمؤمن أن يصبر ويحتسب ...ثم يبدأ حديث النفس من جديد : نعم إنا السبب في ضياع ابني ...لقد أضعته دون أن اعلم ...نعم لم أسمع كلمات أخي وهو يحذرني من دلالي الزائد وإهمالي له ..لقد أعطيته كل شيء دون حساب أو مراقبة ..السيارة ..الجوال ..النقود ..وحرمته من أغلى شي وهو الاهتمام به والقرب منه والسؤال عنه .... حرمته من عاطفة الأبوة ...أنا من قتل ابني نعم أنا من قتله ..تركته وحيداً وسط الأمواج المتلاطمة .. ولقمة سائغة للوحوش المفترسة .. كان كل ليلة يخرج من المنزل مبكراً ولا يعود إلا مع ساعات الفجر ولم أهتم بذلك....لم انصحه....لم أوجهه ..لم ..لم..ولم..رباه ..ماذا فعلت ؟ حتى عندما كان يحاول الاقتراب مني ويحاول أن يستشيرني كنت انفر منه ..لم أسأل عنه يوما في مدرسته ...لا اعرف انجح أم لم ينجح !! ..كنت اعتقد أن أهم شيء له هو توفير المال والسيارة وغيرها.....لقد أضعته لقد أضعته .. ووسط هذا التأنيب المستمر ... والمحاسبة العسيرة ... والحسرة الكبيرة ... يصل هيثم إلى موقع الحادث ... سيارات الشرطة موجودة وبعض الأشخاص .. يوقف هيثم سيارته بجانب الطريق ... ثم ينزل بتثاقل من السيارة .. رجلاه لا تكادان تحملانه ..يداه ترتجفان ..لقد أختلط شعور الخوف بالبرد ..ينظر هيثم إلى المكان ..الهدوء يخيم عليه .. رائحة كريهة تلف المكان .. إنها رائحة الموت .. ينتابه شعور غريب بالتشاؤم ...يرفع نظره إلى السماء ويدع الله أن يثبته ...لحظات صعبة تمر عليه...يتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه ..... فجأة يتجه إليه رجل الشرطة فيصافحه ثم يأخذ بيده :...السيد هيثم ...أنا اعلم بمدى صعوبة الموقف عليك ..ولكن توكل على الله ..لم يكن بمقدورنا فعل شيء .لقد كان الحادث قوياً ... ومما زاد الأمر سوأً أن السيارة احترقت ... يقتربان من السيارة المحترقة ... ينظر هيثم إلى السيارة .. نعم إنها سيارة ابنه التي شراها له حديثاً بمبلغ كبير من المال وهي السيارة الثانية التي يشتريها له في ظرف سنة واحدة ... ولكنها قد تحولت إلى كتلة من الرماد...بقايا الدخان لا زال يخرج منها ..لقد احترقت تماماً ...وفي الجانب الآخر في مكان غير بعيد ..يوجد ثلاثة أشخاص ممددين على الأرض يغطي كل واحد منهم رداء أبيض ...يقترب هيثم...الارتباك يسيطر عليه....يقترب أكثر ... دقات قلبه تزداد .. دمه يكاد يتصلب ... فمه يكادا يتجمد من شدة الهلع .. رجل الشرطة يساعده في تفحص الجثث ... ويحاول التهدئة من روعه: أثبت يا سيد هيثم واستعن بالله وأجعل املك بالله كبيراً ..كلمات رجل الشرطة تدخل شيء من الطمأنينة إلى قلب هيثم .... يقتربان من الشاب الأول .. يحاول هيثم أن يبعد نظره عنه يمنة ويسرة .. رباه أهذا ابني..يقول في نفسه ..رحمتك يا الهي .....بهدوء يكشف الشرطي الغطاء عن وجه الشاب .. الوجه قد تشوه من النار..ورائحة الاحتراق قد فاحت ...لا لا لا هذا ليس ابني...هذا ليس ابني ..هيثم وبارقة الأمل تلوح أمام عينيه ... الشرطي : حسناً .يعيد الغطاء على الشاب مرة أخرى .. ثم يتجهان إلى الشاب الثاني .. يقترب هيثم وقد زادت مساحة الأمل لديه ..وأصبح يمني النفس بنجاة ابنه ... ولكن فجأة ...يقع نظره على يد الشاب ..يااللهي ..هذه يد ابني..إنها تشبهها ..ينظر إلى الساعة التي بيد الشاب ...نعم.. نعم.. إنها الساعة التي اشتريتها له بمناسبة العيد ...آه.. آه.. فؤاد... فؤاد...فؤاد.. يصرخ بصوت عالي يدوي صداه في الأفق ..ويبدد ما تبقى من سكون الليل الهادئ ... ابني .. ابني .. ابني ... سامحني لقد قتلتك ...أنا من قتلك ...أنا من قتلك ..الشرطي يمسك بهيثم ويحاول تهدئته : اذكر الله يا رجل أنت إنسان مؤمن .. والحياة والموت حق ... هيثم والدموع تنهمر من عينيه : الحمدلله ..الحمدلله..الحمدلله على قضاء الله وقدره ..إنا لله وإنا إليه راجعون..ماذا سأقول لامك ؟ كيف سأخبر أخواتك ؟ .كيف....؟ في هذه الأثناء ينزع الشرطي الغطاء عن وجه الشاب ..هيثم يكاد يصعق من هول المفاجأة..يصيح : لا ..لا ..لا .. انه ليس ابني ..انه ليس ابني ..تختلط دموع الحزن والألم...بنشوة الفرح والسرور في نفسه ...ويعود الأمل مرة أخرى ...إنه القدر. ..إنها رحمة الله عز وجل ومشيئته ..الناس القلة الموجودون وقد استشعروا صعوبة الموقف الذي به هيثم يحاولون تهدئته ومواساته بالكلمات البسيطة والدعاء بان يكون ابنه هو ذلك الشاب الذي نجا .... المكان وقد تحول إلى صمت رهيب ..إنها لحظات لا يمكن لأي إنسان أن يتخيلها ...يتجه هيثم برفقة الشرطي إلى الشاب الثالث ..والذي يبدو أنه كان أكثرهم تعرضاً للاحتراق ..الجميع ينتظر ويترقب تلك اللحظة الحاسمة ... وبهدوء ينزع الشرطي الغطاء عن وجه الشاب ...قلب هيثم يكاد ينفطر ..عيناه تتسمران ....يعلق جزء من الرداء بوجه الشاب من جراء التشوه الكبير الذي حدث له ...يقترب هيثم ...يحلق في وجه الشاب ... رباه .. وجهه وقد أحترق .. ولم تبق سوى ملامح بسيطة ....يقترب أكثر ...بقايا الدخان لازال ينبعث من الجثة ... يشير هيثم بأصبعه إلى السماء..لا اله إلا الله .. لهج بها لسان هيثم عندما أيقن أن الشاب الثالث ليس ابنه .... يرفع يده إلى السماء والدموع تنهمر على خديه..يخر ساجداً حامداً شاكراً الله على منه وعطائه ... يندفع إليه الناس الموجودون بالمكان يهنئونه بسلامة ابنه ........بعد لحظات قليلة...يتجه هيثم وقد اتكأ على رجل الشرطة من شدة التعب .. وشحب وجهه من هول الموقف...ثم يصعد إلى سيارة الشرطة فلم يعد باستطاعته قيادة سيارته ..ينطلق به رجل الشرطة إلى المستشفى الذي نُقل إليه ابنه ...وبعد دقائق قليلة يصل هيثم برفقة رجل الشرطة إلى المستشفى ...وكان طوال الطريق يحمد الله على نجاة فؤاد...يدخلان المستشفى ...حديث هيثم مع رجل الشرطة خلال سيرهما بالممر داخل المستشفى كان عن الإجراءات النظامية المترتبة عن الحادث ....يصلان إلى الغرفة رقم 122 والتي بها فؤاد ...يفتح هيثم الباب ..ينظر إلى داخل الغرفة يوجد بالغرفة ثلاثة أشخاص مصابين ... يتفحص هيثم الغرفة ..يبحث عن ابنه...ولكن..لا يراه ! أين فؤاد ...فؤاد...أين فؤاد أيها الرقيب ... وفجأة ... يسمع صوت خافت يهتف من خلفه ... أنا هنا يا أبي .... يلتفت هيثم ورائه فإذا هو بابنه فؤاد أمامه صحيح معافى إلا من بعض الجروح البسيطة ... يجذبه هيثم برفق ويحتضنه وقد غطت الدموع عيناه :فؤاد .. سامحني .. سامحني .. سامحني ....الحمدلله على سلامتك يا ولدي..يعانق هيثم ابنه وكأنه لم يره منذ زمن طويل .... فؤاد وقد شعر ولأول مرة بدفء مشاعر الأبوة يستسلم لحضن أبيه: سلمك الله يا والدي ..أنت سامحني ...فقد أخطأت في حقكم جميعاً ...والحمدلله الذي نجاني وكتب لي عمراً جديداً ....لأكفر عن أخطائي....... يقاطعه هيثم :بل أنا..أنا من اخطأ في حقك أنت ووالدتك وأخواتك..لقد أعمتني الدنيا وجمع المال .. فكدت أن أفقدك ...... ووسط حديث العتاب والندم الممزوج بالفرح والسعادة ....يقترب رجل الشرطة من هيثم : هيا بنا يا سيد هيثم لنكمل إجراءات الحادث....هيثم :حسناً هيا بنا أيها الرقيب ....يتجه الجميع إلى سيارة الشرطة بالخارج وقد امسك هيثم بيد ابنه ....وكأنه يخاف أن يضيعه مرة أخرى..................................
ودمتم ساليمين