الحمد لله والصّلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد..
مقتضى دلالة النّصوص المستفيضة في الكتاب والسنّة، والتي بلغت حدّ التواتر المعنوي وجوب السّمع والطّاعة لولاة أمر المسلمين، برّهم وفاجرهم، مالم يأمروا بمعصية.
من ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من خلع يداً من طاعةٍ لقي الله يومَ القيامة لا حجّة له، ومن مات وليس في عنقه بيعةً مات ميتةً جاهلية " رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة ثم مات، مات ميتةً جاهلية ..." رواه مسلم.
والمقصود بقوله مات ميتة جاهلية: أي مات كما يموت الجاهلي في جاهليته حيث لا يعرف إماماً ولا يلتزم بطاعة، وليس المراد أنّه يموت كافراً كما يموت الجاهلي على الكفر.
وعن أنس رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسبّوا أمراءكم، ولا تغشّوهم، ولا تبغضوهم، واتّقوا الله واصبروا، فإنّ الأمر قريب ". أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنّة.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث خصال لا يغل عليهنَّ قلب مسلم أبدا: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإنّ دعوتهم تحيط من ورائهم " أخرجه ابن أبي عاصم في السنّة.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خمس من فعل واحدةً منهنّ كان ضامناً على الله عز وجل ..." وذكر منها " من دخل على إمامه يريد تعزيره وتوقيره ".
وغيرها كثير من النّصوص الآمرة بطاعة وليّ الأمر المسلم في المعروف، وبتوقيره ونصحه، والمشتملة على الوعيد المغلّظ لكلّ من نازعه أمره، وخرج عليه، وشقّ عصاه.
وتدلّ النّقول المتكاثرة عن علماء السنّة وأئمة الحديث رحمهم الله، والمدوّنة في كتب العقائد السّلفية كأصول السنّة لأحمد بن حنبل والسنّة لأبي بكر الخلال وشرح السنّة لأبي محمد البربهاري والشّريعة لأبي بكر الآجري واعتقاد أهل السنّة لأبي بكر الإسماعيلي وأصول السنّة لابن أبي زمنين وشرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة لأبي القاسم اللالكائي وعقيدة السّلف وأصحاب الحديث لأبي عثمان الصّابوني وغيرهم من أئمة الهدى ومصابيح الدجى على أنّ طاعة ولاة الأمر عند أهل السنّة دين يدينون الله-تعالى- به، وأصل من الأصول والرّكائز العظيمة التي يتميّزون بها عن سائر الفرق الضّالة والمناهج المنحرفة.
من ذلك قول أبي جعفر الطحاوي رحمه الله في عقيدته: " ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمرنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله، مالم يأمرونا بمعصية وندعوا لهم بالصلاح والعافية ".
وقال الشوكاني رحمه الله في السيل الجرار (556:4): " ولكنّه ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه، ولا يُظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد، بل كما ورد في الحديث، أنّه يأخذ بيده، ويخلو به، ويبذل له النصيحة، ولا يذلّ سلطان الله، وقد قدّمنا في أول كتاب السّير أنّه لا يجوز الخروج على الأئمة، وإن بلغوا في الظلم أيّ مبلغ، ما أقاموا الصلاة، ولم يظهر منهم الكفر البواح، والأحاديث الواردة في هذا المعنى متواترة، ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله، ويعصيه في معصية الله، فإنّه لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق ".
وهذا الأصل المتين، والأساس المحكم المستبين، قد اختلط على كثيرين من الدعاة العصريّين والمفكّرين الإسلاميين، فلا تجد له في كتاباتهم ذكرا، ولا في دروسهم ومحاضراتهم خبرا !
بل إنّ طائفة منهم يصنّفون من يعتقدون هذه العقيدة، ويتبنّون هذا المنهج بالمرجئة والمخذّلين والانبطاحيين إلى آخر تلك الألقاب التي ينعتونهم بها، والمسوح التي يخلعونها عليهم، تنفيرا منهم، وتشويها لدعوتهم، وتصغيرا لشأنهم.
ومردّ ذلك إلى أنّ هذه الطائفة من المفكّرين الإسلاميين والدعاة العصريين استقوا فهمهم لهذا الدين من كتب مخالفة للعقائد السّلفية، ونهلوا من موارد تكدّرت بالانحراف العقدي في هذه الأبواب العظيمة من الدين، وتلوّثت بالتصوّر المشوّه لما استقرّت عليه طريقة علماء أهل السنّة في التعامل مع ولاة الأمر من المسلمين.
فمنهم من نهل من الكتب الفكريّة الدعوية المعاصرة التي خطّتها أقلامٌ أرادت باندفاعها وحماستها الدفاع عن الدين والذود عن تشريعاته وأحكامه السّمحة، لكنّها لم تُبن على أصول التلقّي السّلفية الصحيحة، وقواعد الفهم الأثريّة المستقيمة، فأنتجت هذه الأفكار المشوّهة شذوذات وأخطاء، ومخالفات شرعيّة وأهواء، وأنّى للظلّ أن يستقيم والعود أعوج !
ومن هؤلاء المفكّرين العصريين من اغترّ بالمناهج الغربيّة، والتيّارات الليبرالية في التعامل مع الحكّام والتّعاطي مع السياسة، فأراد أن يُسلّط هذه النظريّات والتطبيقات المتداولة في مجتمعات غير إسلاميّة على العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام، فصار يطالب مثلا بسيادة الشّعب والديمقراطية بمفهومها الغربي، وتشكيل الأحزاب، والاحتكام للبرلمانات التّشريعية وغير ذلك.
فاختلطت في رؤوسهم الفهوم، وامتزجت عقائد أهل السنّة التي قصُرت أفهامهم عن إدراكها ومعرفة مضامينها، بتصوّرات وأفكار اشتطّت في البُعد والمخالفة، فأنتجت مقولات عوراء ونظرات شوهاء.
ومن ذلك أيضا أنّ بعض هؤلاء المفكرين نتيجة للخلل الواقع عندهم في فهم عقائد السّلف الصّالح رحمهم الله ،صار يدعو صراحة إلى الخروج على الحكّام المسلمين ومنابذتهم عند وجود المعاصي والمنكرات.
ومنهم من يقرّر أنّ الحاكم المسلم إذا لم يتمكّن من تيسير سبل الحصول على المتطلّبات الأساسية والحاجيّات المعيشيّة لمواطنيه، فإنّه يُشرع للنّاس إزالته والسّعي في خلعة، واتّخاذ كل الوسائل الممكنة والتدابير الموصلة إلى إزاحته والإطاحة به.
ومنهم من يرى عدم الاعتراف بشرعيّة الحاكم المسلم الذي لا يحقّق قدرا عظيما من العدل الاجتماعي والرفاه المعيشي والإنصاف بين آحاد الرّعيّة.
ومن المعلوم أنّ توفير سبل العيش الكريم، والحياة الطّيبة لآحاد الرعية، من المطالب المهمّة والحقوق الأساسية التي تصلح بها حياة الناس، وهي حقوق عظيمة وواجبات جسيمة، وإن تفاضل قدرها وتفاوتت أهميّتها.
ولا يُستراب أنّ الواجب على ولاة أمر المسلمين أن يعملوا على إقامة الدين وتحكيم الشّريعة والعدل بين الناس وتوفير سبل الأمن والرعاية الصحيّة والتعليمية والاجتماعية والحياة الكريمة لرعاياهم، حتى يؤدّوا هذه الأمانة العظيمة الملقاة على عواتقهم على وجهها المشروع، فتبرأ ذممهم وتسلم لهم عند الله آخرتهم.
فإنّ الله-تعالى- قد استرعاهم هذه الأمانة، وقلّدهم هذه المهمّة وهو سائلهم عنها، جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنّ النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به "، فهذه أمور يتّفق عليها العقلاء ولا منازعة فيها.
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: " إن أحبّ الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدّهم عذاباً إمام جائر ".
لكنّ التقصير والخلل الواقع في هذه الأبواب، لا يُجيز استنهاض همم الناس ودعوتهم للخروج عن طاعة ولاة الأمر، والتمرّد على أنظمتهم والوقيعة في أعراضهم، وتهويل كل خطأ أو تقصير صادر عنهم أو تحت حكمهم لتهييج الناس ودفعهم دفعا لمنابذة ولاتهم والافتئات عليهم.
يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله كما في الخطب المنبرية: " فالله الله في فهم منهاج السلف الصالح في التعامل مع السلطان وان لا يتّخذوا من أخطاء السلطان سبيلاً لإثارة النّاس والى تنفير القلوب عن ولاة الأمر فهذا عين المفسدة، وأحد الأسس التي تحصل به الفتنة بين الناس ".فحقّ الحاكم المسلم دينا وعقيدة أن يُطاع في المعروف، وتجب مناصرتُه على الحقّ، ومؤازرته، وتوقيره واحترامه والتماس الرّفق في نصحه، كما يحرُم غشّه، أو الغدر به، أو التشهير به أو الوقيعة فيه والاستخفاف به، والتفكُّه بعرضه في المجالس أو المنابر، قال تعالى
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً ) النساء:59.
ويقول العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين (163:2):
" كما أنّ ولاة الأمر من الأمراء والسّلاطين يجب احترامهم، وتوقيرهم، وتعظيمهم، وطاعتهم حسب ما جاءت به الشّريعة، لأنّهم إذا احتُقروا أمام النّاس، وأُذلّوا، وهُوّن أمرهم ضاع الأمن، وصارت البلاد فوضى، ولم يكن للسّلطان قوّة ولا نفوذ ".
ويقول الشيخ محمد بن عبد الله بن سبيّل رحمه الله كما في الأدلة الشرعيّة في بيان حقّ الراعي والرعية ص25: " نصّ أهل السنّة والجماعة على أنّ من حقوق ولاة الأمور على الرعيّة، إجلالهم، وتوقيرهم، وتعظيمهم في النّفوس ".
فإنّ من عقائد أهل السنّة أنهم لا يرون الخروج على وليّ الأمر المسلم وإن جار وظلم، ما لم يروا منه كفرا بواحا عندهم من الله فيه برهان.
فإن جاء من ينازع وليّ الأمر ويُحسّن الخروج عليه، وجب على المسلمين منعه بكل وسيلة ممكنة، فإن أصرّ على المنازعة وحشد أنصاره للمقاتلة ولم يُمكن صدّه إلا بالقتال، تعيّن قتاله.
ومن قواعد الشّريعة الكليّة أنّ الضرر يُزال، ويجب أن تُجتنب أسبابه ووسائله. وأن الواجب أن تُغلق كل المنافذ الموصلة إليه، ويتعيّن على جماعة المسلمين حفظ حقوق الأمة ومكتسباتها ومقدّراتها والخير الذي ما زال فيها، مع العمل على تنميته وتزكيته، وإن ترتّب على ذلك زجر الخارجين، وردّ باطلهم، ومنعهم من إثارة الفوضى وجلب الفتن، وذلك خير من تركهم ليقوّضوا الأمن ويفسدوا الاجتماع.
وذلك يكون مع بذل النصح للولاة بالوسائل الشرعية والطريقة السّلفيّة دون تهوين من انحرافاتهم أو تسويغ لأخطائهم.
فاعقل هذا، ولا تغترّ بالأفكار المحدثة والمناهج المستقاة من بيئات ومجتمعات وثقافات لا تعلّق لها بالوحي المنزّل من السماء، فقد جنى أصحابها على الشّريعة، وحرفوا مقاصدها، وأدخلوا فيها ما ليس منها.
ولا تلتفت - رحمك الله- إلى هذه التنظيرات الفكريّة والأهواء الحادثة، وتُعرض عن الأصول المستقرّة والمسلّمات الشّرعيّة الثّابتة، وتذهل عن العقائد الراسخة عند أهل السنّة والجماعة في أبواب السّمع والطاعة ولزوم الجماعة.
ولا يهولنّك حماسة أهل هذه الدعاوى، واندفاعهم في تقريرها، ودعوة النّاس إليها، فإنهم دعاة فتنة، والفتن إذا أقبلت شبّهت وغرّت النّاس ببهرجها، وخدعتهم بحُسنها، وطريقة عرضها، وهي في حقيقتها منطوية على الفساد المورث للاختلاف والتنازع والتفرّق.
نسأل الله أن يجنبنا الفتن وأن يثبتنا على دينه إلى أن نلقاه هادين مهديين غير ضالين ولا مضلين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين