حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
سلمان بن فهد العودة
إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذه المنـزلة من الأهميَّة في دفع الغربة وحفظ كيان الأمة وحمايتها من العذاب الإِلهي العاجل ومن الانهيار المادي والمعنوي؛ فإن من الطَّبَعي أن يكون له من المنـزلة في الدين بقدر هذه الأهمية في واقع الحياة.
ولذلك أجمع العلماء على القول بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على التفصيل الآتي.
وجاءت النصوص الكثيرة؛ آمرة للمؤمنين عامَّة، وللفئة المجاهدة المنصورة خاصة، بالقيام بهذا العمل الكبير، وتحمُّل أعبائه وتبعاته.
فمنها حديث جرير بن عبد الله البجَلي في وعيد مَن عُمِل فيهم بالمعاصي، وقد قدروا أن يغيِّروا، فلم يغيِّروا: أن يصيبَهم الله بعذاب قبل أن يموتوا .
ومثله حديث أبي بكر في أن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه؛ أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب .
وحديث حذيفة في التأكيد على المؤمنين أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وتهديدهم إن لم يفعلوا أن يبعث عليهم عقابًا، ثم يدعونه، فلا يستجيب لهم .
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: "فإن يتركوهم وما أرادوا؛ هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم؛ نَجَوا ونَجَوا جميعًا" .
إن وعيد الناس؛ بالعقاب والعذاب العاجل والآجل، وبالهلاك والدمار الشامل، وبردِّ الدعاء عليهم إذا دَعَوا؛ لا يكون إلا على فعل محرَّم أو ترك واجب.
وهذا الوعيد الوارد في النُّصوص هو على المجموع: القوم، أو الناس، أو العامَّة، إذ كان في إمكانهم أن يغيِّروا المنكر فلم يغيروه، وفي إمكانهم أن يأخذوا على يدي الظالم فلم يأخذوا على يديه.
وعن طارق بن شهاب؛ قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة: مروان ، فقام إليه رجل، فقال: الصلاة قبل الخطبة. فقال: قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد: أما هذا؛ فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرًا؛ فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "فليُغَيِّرْه": هو أمر إيجاب بإجماع الأمة؛ كما قال النووي.
وقال: "وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، وهو أيضًا من النصيحة التي هي من الدِّين، ولم يخالف في ذلك إلاَّ بعض الرافضة، ولا يُعتدُّ بخلافهم...".
وهذا الوجوب الذي نقل النووي الإِجماع عليه هو مطلق الوجوب، وأعم من أن يكون وجوبًا عينيًّا أو كفائيًّا.
فأما الإنكار بالقلب؛ فواجب على كل أحد وجوبًا عينيًّا أكيدًا، إذ عدم الإنكار بالقلب يعني أنه ليس فيه حبة خردل من إيمان.
وأما الإنكار باليد أو اللسان؛ فرأي جماهير العلماء أنه فرض كفاية على مجموع الأمة .
ومن أقوى الأدلَّة على ذلك قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ منْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْر وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوف ويَنْهَوْنَ عَن المُنْكَر وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) .
إذ لم يقل: كونوا كلُّكم آمرين بالمعروف؛ بل قال: (وَلْتَكُنْ مِنكُمْ أُمَّةٌ)، فإذا قام به فردٌ أو جماعةٌ بقدر الحاجة؛ سقط الحرج عن الآخرين، وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون؛ عمَّ الحرج كافَّة القادرين عليه لا محالة .
ولكن؛ قد يحتاج القائم بالأمر والنهي إلى عون غيره ومساعدتهم في تحقيق القيام بهذه الفرضيَّة، وإزالة المنكر، وإحياء المعروف، فها هنا يجب عليهم معاونته في ذلك؛ لأنها من توابع القيام بالفرض ذاته، ولا تتحقَّق الكفاية إلا بها، وبهذا يشمل الأمر الطائفة المنصورة وغيرها.
حالات الوجوب العيني للأمر والنهي:
وثمَّة حالات يجب فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبًا عينيًّا:
1- منها: إذا لم يعلم بالمنكر ويطَّلع عليه إلا فردٌ أو أفرادٌ قلائل لا تتحقَّق الكفاية إلا بهم .
2- إذا لم يستطع القيام بالأمر والنهي والتغيير إلا فردٌ أو أفرادٌ لا تتحقَّق الكفاية إلا بهم جميعًا .
ومن ذلك المنكَرات التي يفعلها عِلْيَة القوم مِن السلاطين ومَن لابسهم أو استظلَّ بظلهم، سواء في ذلك المنكرات الشخصيَّة الخاصَّة، أو المنكَرات العامة التي يؤذون بها المسلمين، إذ لا يستطيع الإنكار عليهم كل أحد؛ بل لا ينكر عليهم إلا ذو مكانة ومَنَعة من العلماء ونحوهم.
ومثله إذا كان الواقع في المنكر أحد له عليه ولاية شرعيَّة، ويستطيع هو - دون غيره - أن يأمره وينهاه؛ كابنه، وزوجه، وغلامه .
3- وبجب القيام بالأمر والنهي وجوبًا عينيًّا على ذوي السلطان المقتدرين على التغيير، وعلى من يفوِّضونهم في ذلك؛ كالمحتسبين.
فإن الله تعالى إنما شرع الإمامة العُظمى وسائر الولايات دونها؛ لإقامة الدين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وردع الظالمين والفاسقين؛ بإقامة الحدود والتعزيرات التي تمنعهم من التمادي والانهماك فيما هم فيه، فإذا ترك الولاة الأمر والنهي والجهاد؛ طمعًا في دنيا، أو خوفًا على كرسي، أو محاباةً لبعض الكفار أو الفساق أو المنافقين؛ فالشأن فيهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وولي الأمر؛ إذا ترك إنكار المنكَرات، وإقامة الحدود عليه بمال يأخذه؛ كان بمنـزلة مقدَّم الحرامية الذي يقاسم المحاربين على الأخيدة، وبمنـزلة القوَّاد الذي يأخذ ما يأخذه ليجمع بين اثنين على فاحشة، وكان حاله شبيهًا بحال عجوز السوء امرأة لوط...
وولي الأمر إنما نُصِّب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية، فإذا كان الوالي يمكِّن من المنكر بمال يأخذه؛ كان قد أتى بضدِّ المقصود؛ مثل من نصبته ليعينك على عدوِّك، فأعان عدوَّك عليك، وبمنـزلة مَن أخذ مالاً ليجاهد به في سبيل الله، فقاتل به المسلمين" .
المصدر : كتاب وسائل دفع الغربة …. تأليف: سلمان بن فهد العودة