اقدام تنتعل السراب - موقع الشاعرغازي البراك موقع الجميع

إظهار / إخفاء الإعلاناتحاصل على ترخيص من وزارة الثقافه والاعلام السعودي
قناة غازي البراك
عدد الضغطات : 34,796 عدد الضغطات : 59,908 حفل زواج
عدد الضغطات : 19,993
http://www.sot3bs.com/do.php?imgf=sot3bs_13309238811.jpg
عدد الضغطات : 32,977 عدد الضغطات : 64,784 عدد الضغطات : 30,730
عدد الضغطات : 24,508 عدد الضغطات : 71,998 البديوي
عدد الضغطات : 38,434

القرآن الكريم الإمساكية
آخر 10 مشاركات
صور زواج سلمان وسلطان ابناء ناصر شامان رويحل البراك 4-10-1445 (الكاتـب : - )           »          صور تغطية زواج عيسى مفلح المظيبري 3-10-1445 (الكاتـب : - )           »          صور زواج عبدالمجيد سعود نابت القلادي 2-10-1445 (الكاتـب : - )           »          صورختمة القران الكريم بمجلس عارف درزي العردان بالحفير 20-9-1445 (الكاتـب : - )           »          صور احتفال رجل الاعمال فهد بن حماد الشمري بجادة الابل بحائل (الكاتـب : - )           »          صور زواج نايف وعوض ابناء عقاب بن حمد القلادي 20-8-1445 (الكاتـب : - )           »          صور زواج محمد هني بن عريجه الرويضي 19-8-1445 (الكاتـب : - )           »          صور زواج منيف سعد بن جابر البراك 17-8-1445 (الكاتـب : - )           »          صور حفل زواج مشاري عواض بن مران الرشيدي 13-8-1445 (الكاتـب : - )           »          صور حفل الشيخ محمد ناهس واخيه فهد ناهس بن براك بجادة الابل بحائل (الكاتـب : - )


 
العودة   موقع الشاعرغازي البراك موقع الجميع > الدواوين الأدبية > ساحة الشعر والادب (كتابه)(صوت)(شيلات) > الديوان الادبي-النصوص-الفصحى-خواطر- نثر-حر

الديوان الادبي-النصوص-الفصحى-خواطر- نثر-حر يختص بالنصوص الفصحى-حر -خواطر - نثر

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
 
قديم 05-17-2010, 12:12 PM   رقم المشاركة : 1
مسـتــشار الـمـوقـع
 
الصورة الرمزية ابوعبدالمجيد1





الحالة
ابوعبدالمجيد1 غير متواجد حالياً

ابوعبدالمجيد1 is on a distinguished road

كبار الشخصيات وسام الاداره 


 

افتراضي اقدام تنتعل السراب

اقدام تنتعل السراب

روايه بقلم الشاعر والاديب والعالم الرائد الدكتور| حمد حميد الذيابي الرشيدي
---------------------------------------------------


(1)
قضى (حمود الجوعان) نصف عمره بدوياً يحل ويرحل بغنمه وإبله في صحاري (الشمال) مع نفر قليل من أبناء عشيرته الذين دارت بهم رحى البداوة الطاحنة زمناً طويلاً على شظف من العيش مرارته أكثر من حلاوته، وحاضره لا يذكر بشيء من ماضيه سوى بسنوات القحط والجدب التي تجتاح (بادية الشمال) على فترات متقطعة تستشري خلالها طائفة من الأوبئة التي تفتك بالإنسان كالجدري والجذام والطاعون.
شاب في أواخر الثلاثينات، ربع القامة، ذو شعر أجعد متنافر كنبات (العرفج) له شارب ذو نهايتين دقيقتين تتدليان كقوسين حول الجزء السفلي من فمه على نحو نصف دائري شبيه بحذوة حصان، وعلى حواف شفته العليا من شاربه تبدو شعيرات ناتئة تشربت بكدرة صفراء من أثر تدخين (السجائر) التي يحرص على شرائها آخر كل شهر حين يقصد سوق (شمالات) في (الشمال) ليبيع بعضاً من أغنامه هناك.
ومشكلة (حمود) التي ينفرد بها عن غيره من أبناء عشيرته أنه رجل متطفل، مسكون بحب استطلاع الأمور، ولوع بـ (مغازلة) النساء من راعيات الأغنام حين يلتقيهن في الفلاة، أو ممن يردن الغدران بقربهن لجلب المياه لبيوتهن، شغوف باقتراف المفاجآت التي توقع الناس ممن يعرفهم وممن لا يعرفهم بمواقف محرجة قد تصل إلى حد التهور .!!. بل الجنون أحياناً...!!.
ولا يتمالك (حمود) نفسه من الضحك (الهيستيري) حين يرى أحدهم واقعاً في موقف حرج حتى تعتريه نوبة من الضحك يستلقي لها على ظهره بحيث تبدو أواخر نواجذه المسودة التي نخرها السوس من أثر التدخين.
وكان كثيراً ما يراهن الآخرين حتى على أتفه الأسباب لدرجة أنه راهن ذات مرة صديقه الراعي (مطيعاً الذراع) على أن المسافة بين الغدير الذى تشرب منه أغنامهم إلى منازل أهليهم على الضفة الأخرى من (وادي الضواري) تبلغ تسعمائة وتسعة وتسعين ذراعاً (فقط).
وقد بلغ الحمق والبلاهة بـ (مطيع) حداً جعله يذرع هذه المسافة من الضحى إلى قرب غروب الشمس حتى تقرحت ذراعاه من الحصى والشوك وضلت غنمه التي تركها عند الغدير ولم يجدها إلا في صبيحة اليوم التالى.
ولذلك فقد كان (مطيع) مبعثاً للتندر بالحمقى والمعتوهين لدى أهل (الحي) حين يتسامرون في مجالسهم حول نيران بيوتهم التي يشعلونها مساء كل ليلة بين صلاتي المغرب والعشاء ليعدوا عليها طعامهم وشيئاً من القهوة والشاي، حتى لقبوه بـ (الذراع) لذرعه تلك المسافة التي لازالت رقماً مجهولاً بالنسبة إليهم جميعاً وليس من المهم أبداً أن يعرف أحدهم عنها شيئاً.
ومن يعرفون (حمود الجوعان) منذ صغره يقولون إنه – وإن كان في طباعه شيء من الرعونة و (اللقافة) إلا أنها لم تبلغ به ما بلغته في العقد الأخير من عمره، حيث أصبح رجلاً غير مأمون العواقب، مخادعاً، يخلط الجد بالهزل، والهزل بالجد، كثير الضحك على الرغم من قلة كلامه حين يحضر مجالس الرجال.
فهو لا يتحدث عن شيء إلا حين يسأل وإذا سئل أولج يده المخشوشنة ذات الأصابع النحيلة في جيبه مستخرجاً علبة سجائره ليشعل (سيجارة) يحلو له أن يدخنها أثناء حديثه بانسجام مزاجي ترافقه همهمات ضحك خفيفة حتى وإن كان الحديث مأساوياً وليس فيه ما يبعث على الضحك أو التندر.
ومع ذلك كله فإن لـ (حمود) من صفات الكرم والسخاء والشهامة التي يتصف بها ما يعوض به هذا الجانب المختل في شخصيته ومكانته بين أفراد عشيرته. هذا فضلاً عن كونه (بواردياً)(*) ما هراً لا تخطئ رصاصة بندقيته حين يسددها باتجاه هدف معين إلا فيما ندر.
وثمة مأساة شخصية يعيشها (حمود) وحده دون الآخرين منذ بضع سنوات مضت، ويعلق على خلاصه منها كثيراً من الآمال التي طالما حلم بتحقيقها في حياته حتى أصبحت هماً مؤرقاً وهاجساً غامضاً يخاتله بالخوف من المجهول، ويلبد شعوره بضبابية المصير التي لا يمكن التنبؤ بنتيجتها أو بما سوف تسفر عنه من مفاجآت طارئة قد تلقي به في محاذير لا تحمد عاقبتها.
وتتلخص هذه المأساة في أن (حموداً) قد أحب ابنة عمه (ضحى بنت عجلان) منذ صغره، وهام بها عشقاً شغل قلبه وفكره فترة طويلة من الزمن. وقد أوعز إلى عمه (عجلان) في أن تكون (ضحى) زوجة له في المستقبل حين تكبر وتبلغ مبلغ النساء من سن الزواج فهو ابن عمها وأحق بها من غيره.
وقد وافق عمه (عجلان) مبدئياً على هذه الزيجة، إلا أنه قد اشترط عليه ثلاثة شروط لإتمامها. وهذه الشروط – على ما فيها من غرابة – شروط ملزمة وواجبة على (حمود) وبدونها لن يتم زواجه من (ضحى) أبداً.
قال عمه (عجلان) بجلافته وصراحته المعهودة ذات مساء في مجلس (منصور البو) الذي ضم عدداً من رجال (الحي) ومن بينهم (حمود) نفسه:
- اشهدوا يا (جماعة الخير) ..!! إن ابنتي (ضحى) ستكون من (نصيب) ابن أخي(حمود)..هذا الجالس بينكم الآن إذا جاءني بالرؤوس الثلاثة(الملعونة) التي طلبتها منه وهي رأس (ثعبان ريع الدرب الأسود) ورأس (ذئب قاع ساق) ورأس السعلاة (هلالة).
ولجّ المجلس بمن فيه بين مندهش ومستغرب ومعارض لهذه الشروط الغريبة الفجة التي أثقل بها (عجلان) كاهل ابن أخيه (حمود) مهراً لابنته (ضحى).
ورمق بعض الحاضرين (حموداً) بنظرات تنم عن إشفاق وتعاطف ... بدا ذلك جلياً على وجوههم التي تلعقها ألسنة النار التي يتحلقون حولها، وهم يتناولون فناجين (القهوة) والشاي بين صلاتي المغرب والعشاء كعادتهم. ورشق (أبو مصلح) الذي اعتاد الجلوس متطرفاً من المجلس (عجلان) بسيل من عبارات الشتم والتقريع قائلاً والحروف تخرج من بين أسنانه:
- لا بارك الله فيك يا (عجلان) ولا في بنتك..!!.
أما بالنسبة لـ (حمود) فقد استقبل الأمر برحابة صدر وبرودة أعصاب كعادته، ولم يكن منه إلا أن أشعل سيجارته، وراح يدخنها بشغف حميمي، وهو يتمتم ويقهقه بصوت خفيض:
- بسيطة ..!! بسيطة يا عم (عجلان) (ولايهمك)..!!
أما الشيخ (محسن) شيخ عشيرة (الجواعين) فقد ظن أن (عجلان) مصابٌ بالجنون، أو ربما اعتراه شئ من الهذيان والتخريف فيما يقول نظراً لمعرفته الشخصية به، ولكونه يعرف أن (عجلان) ليس ممن يحبون المزاح كثيراً، أو ممن يكثرون الكلام في مجالس الرجال بغير داعٍ.
ولذلك فقد علق الشيخ (محسن) على ما رآه وسمعه قائلاً وهو ينفث حبات (الهيل) من الفنجان الذي يرتشفه.
- الصباح (رباح) يا (عجلان)..!! .. و (كلام الليل يمحاه النهار)!! و (حمود) يبقى ابن أخيك سواء زوجته أو لم تزوجه.
وانفض المجلس، وافترق من حضره في تلك الليلة، وأصبح (حمود) وعمه (عجلان) وابنته (ضحى) حديث أهل (الحي) وشغلهم الشاغل الذي لا يكفون عن الخوض فيه في مجالسهم، ولا يملون من تناقله على ألسنتهم، وترديده على مسامعهم.
ومكمن الغرابة التي استشعرها أهل (الحي) في هذا الأمر ليست في واقعية (الرؤوس المشروطة) ومدى وجودها على أرض الواقع فحسب– وإن كان بعضهم لا يزال يشك في ذلك– فهم يعرفون ما هو (ذئب قاع ساق)؟ وما هو (ثعبان ريع الدرب الأسود)؟ ومن تكون السعلاة (هلالة)؟ لكثرة ما تردد على أسماعهم من أنباء هذه المخلوقات، وإنما استغربوا من كونها شروطاً ملزمة وواجباً على (حمود) الوفاء بها كلها على ما فيها من قساوة وفجاجة وغلظة تحول دون تنفيذها إن لم يكن شبيهاً بالمستحيل. وفسر بعضهم كلام (عجلان) على أنه (تخريف) كما سبق أن فسره الشيخ (محسن) بينما فسره بعضهم الآخر على أنه نوع من التعسف أو التعجيز الذي أراده (عجلان) ليفوت على (حمود) فرصة زواجه من (ضحى) ويؤخره حتى يتجاوز سنه الأربعين عاماً، وبالتالى يتمكن (عجلان) نفسه من تزويجها من ابن عمها الأخر (جهز) الذي يصغر (حموداً) ببضع سنوات – والذي يعمل عسكرياً في أحد القطاعات العسكرية بمدينة (تبوك).
وكان (العرف القبلي) المتفق عليه بين جميع أفراد عشيرة (الجواعين) يقضي بأن تكون بنت العم من (نصيب) أكبر أبناء عمومتها سناً إذا رغب في الزواج منها، وأعطاه والدها نية الموافقة على هذا الزواج مبدئياً – على أن يقوم (الخاطب) بدفع تكاليف المهر وما يلحق بها من شروط مادية ومعنوية أخرى يتفق عليها الطرفان وذلك قبل بلوغه سن الأربعين.
أما إذا تجاوز (الخاطب) سن الأربعين – كحد أقصى من العمر – دون أن يفي بالشروط المفروضة عليه فإن نية الزواج تبطل وعلى (الخاطب) – في حينه – أن يبحث أمر زواجه من جديد مع عمه والد البنت الذي ربما يضطر – في مثل هذه الحالة – لتزويجها من غيره.
وها هو (حمود الجوعان) الآن على مشارف السابعة والثلاثين من عمره وقد مضى على الشروط التي فرضها عليه عمه منذ تلك الليلة المشهودة ما يقرب من أربع سنوات دون نتيجة بما يعني أنه تبقى له أربع سنوات أخرى كحد أقصى للوفاء بالشروط المذكورة، وإلا كانت (ضحى) من (نصيب) غيره.
ومن هنا كان للزمن قيمة ومعنى لدى جميع أفراد عشيرة (الجواعين) لما له من ارتباط وثيق بحياتهم الاجتماعية.
ولذلك فقد اشتهرت عشيرة (الجواعين) بين عشائر (الشمال) وقبائله بمعرفة أفرادها الدقيقة بظهور أهلة الشهور ومنازل الأبراج ومطالع النجوم والشمس والقمر وما يصاحب هذه الظواهر الكونية من تغيرات موسمية ومناخية.
إنهم قوم يراقبون السماء باستمرار ولا يغفلون عنها وكأن أمهاتهم ولدتهم لتكون وجوههم وعيونهم معلقة بالآفاق البعيدة. وفي ليلة جمعتهم في مجلس الشيخ (محسن) قال كبيرهم الفلكي (ابن ريحانة) متفكهاً:
- إننا- نحن الجواعين - قوم شغلنا بالسماء حتى نسينا مشاكلنا على الأرض..!!
فأجابه (ملحان الورطة) بتعليقاته اللاذعة المعهودة:
- أنا- شخصياً – يا ابن ريحانة لا أذكر الأرض إلا حين أرى (حمود الجوعان) !!
فتعالت أصوات الحاضرين بالضحك والقهقهات ومن بينهم (حمود) نفسه الذي استلقى على ظهره من شدة الضحك.
وعلى غدير (وادي الضواري) الذي يرده الرعاة بأغنامهم وإبلهم وقربهم من عشيرة (الجواعين) والعشائر الأخرى المجاورة لها تحتدم الجلبة والضوضاء التي يثيرها ثغاء الأغنام ورغاء الإبل المتزاحمة على الماء – فتتعالى أصوات الرعاة من رجال ونساء في محاولة لتنظيم عملية توارد هذه الأعداد الكبيرة من المواشي والدواب، فلكل راعٍ دوره الذي ينتظره لإيراد مواشيه على نحو شبه مرتب.
وعلى هامش هذه الجلبة يختلس بعض الرعاة ممن ينتظرون دورهم لحظات من وقتهم لتبادل الأحاديث وتجاذب أطراف الكلام عن أخبار الربيع وهطول الأمطار ووقت ظهور نجم (سهيل). وتتشعب الأحاديث للتطرق إلى أمور شتى عن تفشي أمراض المواشي وعن السعلاة (هلالة) و(ذئب قاع ساق) و(ثعبان ريع الدرب الأسود).
بل يصل الحديث أحياناً إلى ما استجد عن قصة (حمود) وابنة عمه (ضحى) التي تعتبر من الأحداث الراهنة على صعيد الحدث الاجتماعي بين الناس.
وها هي (ضحى) ابنة العشرين ربيعاً مع رفيقتها (حشمة) تتخذان ركناً جانبياً من الغدير بانتظار دورهما في الورود، فتخاطبها (حشمة) بنوع من العتب المشوب بالمواساة:
- والله (طوَّلها) ولدعمك (حمود) يا (ضحى) ...!! إلى متى والناس ينتظرون؟!
وتجيبها (ضحى) بنبرة مهادنة:
- إيه..!! الله كريم يا (حشمة)!! (حمود) إن كان (فيه خير) الله يقرّبه!!.. وإن كان (فيه شر) الله يبعده عنا وعنكم!!
وعلى الركن الآخر الذي يركن إليه الرجال من الغدير يقف (حمود) متلثماً بطرف (شماغه) حاملاً بندقيته على عاتقه ويتمنطق بحزام محشو بالرصاص حول وسطه.
ومع أنه قد نودي بدوره للورود إلا أنه رأى الفرصة سانحة لإظهار بعض مشاعره الودية والعاطفية تجاه (ضحى) وذلك بتقديم دورها على دوره حيث جهر بصوته:
- أوردي يا (ضحى)..!!.. أوردي يا بنت..!!
وتلكأت (ضحى) برهة إلا أنها قبلت على استحياء إيراد غنمها وهي تنأى بعينيها النجلاوين الهدباوين بعيداً عن (حمود) من شدة الخجل.

(2)
يقضى (حمود الجوعان) نهاره – كغيره من الرعاة – بين غنمه وإبله في الفلاة ويعود حين يعود الآخرون إلى بيوتهم مع غروب الشمس على سيارته (الجيب) التي يستخدمها في المراوحة فيما بين غنمه في الفلاة القريبة وبين إبله في الفلاة البعيدة عن منازل (الحي). وفي ظهيرة أحد الأيام شهد (حمود) عراكاً كلامياً بين (مطيع الذراع) و (ملحان الورطة) أثناء قيلولتهم بمواشيهم تحت أشجار الطلح أسفل (وادى الضوارى).
قال (مطيع) إن المهلة المتبقية لـ (حمود) لإيفائه بشروط زواجه من (ضحى) أربع سنوات. أما (ملحان) فقد (اجتهد) بالتدقيق فى المدة المتبقية من المهلة بقوله إنها ثلاث سنوات وعشرة أشهر (فقط).
وتواترت المشادة الكلامية بين الاثنين، فأرادا (حمودا) للفصل فيما بينهما، حيث غمز (حمود) بعينه خلسة لـ (ملحان) الذى أوجس من هذه (الغمزة الخبيثة) أن (حموداً) يريد أن يوقع (مطيعاً) فى مقلب جديد.
حينها قال (حمود) بتلكؤ خبيث متعمد:
- ....والله ..!! والله قد يكون (مطيع) صادقاً يا (ملحان)!!
...ولكن ... ما رأيكما فى أن تتراهنا لدى (ابن ريحانة) فهو أعلم بالمدة المتبقية منا جميعاً؟! ومن يخسر الرهان منكما فإن عليه شاة يذبحها لنا من غنمه.
ولم يتردد (مطيع) أبداً فى قبول هذه الفكرة التى تنطوى على خبث مدبر لا يعلمه بين (حمود) و(ملحان). واتفق الثلاثة على أن يجتمعوا الليلة لدى (ابن ريحانة) فى مجلس (منصور البو) لحسم رهانهم هذا.
وبعد صلاة المغرب اجتمعوا فى مجلس (منصور البو) وقد تأخر (ابن ريحانة) هذه الليلة على غير عادته عن المجئ ولم يأتهم إلا حين أذن مؤذن (الحي) (عثمان الحنبلى) لصلاة العشاء مما جعل الفرصة سانحة لتوتر المشادات الكلامية بين الحاضرين حول الرهان وطرفيه (مطيع وملحان).
ولما انقضت الصلاة استأنفوا مسامرتهم التى تمتد بعد صلاة العشاء إلى ما يقرب من ساعة ونصف أو ساعتين على الأكثر كما اعتادوا عليه. ومع أن الأحاديث كانت تتناول أخبار أسعار أعلاف الماشية فى سوق (شمالات) إلا أن (ملحان الورطة) قد قطعها قائلاً بـ (لقافته) المعروفة بسؤال وجَّههُ لـ (ابن ريحانة) قائلاً:
- يا (ابن ريحانة)..!!.. لقد تراهنت أنا و (ومطيع) اليوم على أن المدة المتبقية من المهلة التى حددها (عجلان) لـ (حمود) هى ثلاث سنوات وعشرة أشهر.
وأرخى (ابن ريحانة) عنقه التى كان يمدها إلى أعلى كعادته أينما كان فى السماء لمراقبة نجومها ثم قال بتراخِ:
- وما المطلوب؟
- المطلوب معرفة المدة ، هل هى كما قلت؟ أم كما قال (مطيع) بأنها أربع سنوات؟
فأجاب (ابن ريحانة) على الفور:
- بل هى ستة وأربعون شهراً واثنتا عشرة ليلة، أى أربع سنوات إلا شهراً وثمانى عشرة ليلة، وليست أربع سنوات بالتمام.
وانبهر المجلس بهذه الدقة المتناهية التى أظهر من خلالها (ابن ريحانة) معرفته الحسابية الماهرة بالسنين والشهور والليالى وسألوه عن الطريقة التى استخدمها فى حساب هذه المدة فذكر لهم باختصار أنه قد قام بجمع حصوات صغيرة عددها ست وتسعون حصاة لفها فى قطعة من القماش منذ أن فرض (عجلان) على (حمود) شروطه قبل أربع سنوات.
وكان كلما هل هلال شهر جديد ألقى بواحدة من تلك الحصوات التى تعتبر كل واحدة منها عن شهر فى حسابه، وهكذا حتى تبقى منها الآن لديه ست وأربعون حصاة.
وقال (ابن ريحانة) وأبصار الجالسين شاخصة إليه بإعجاب:
- هذا يعنى – ياجماعة – أن ثمانى سنوات تساوى عندى ستاً وتسعين حصاة، وهى عدد شهور هذه السنوات، ذهب منها ما ذهب وبقى منها ما بقى.
أما بالنسبة لحساب الليالى، فأمرها هيِّن ومعروف لدينا جميعاً إذ إننا الآن فى الليلة الأخيرة من الثلث الثانى للشهر الحالى كما يدل عليه قمر هذه الليلة.
وأحس(ملحان) أن (مطيعاً) يريد التملص من الموضوع لشعوره بالغلبة وذلك بتغييره محور الحديث عن الرهان إلى الحديث عن الربيع والأمطار فقال:
- هذا يعنى أننى قد كسبت الرهان، وعلى (مطيع) شاة يذبحها لنا من غنمه، كما يشهد (حمود) بذلك.
واستشاط (مطيع) غضباً ثم قال مزمجراً:
- لا كسبت الرهان يا (ملحان) (ولا حاجة) !!...نحن كلنا خطأ، أنا قلت إنها أربع سنوات ، وأنت قلت إنها ثلاث سنوات وعشرة أشهر، والصحيح ما قاله (ابن ريحانة) من أنها ستة وأربعون شهراً واثنتا عشرة ليلة.
فضحك (حمود) و(ملحان) بطريقة استفزازية جعلت (مطيعاً) يلقى بـ (شماغه) و(عقاله) وسط المجلس طالباً التدخل من الحاضرين لحل المشكلة.
ولذلك فقد أراد الشيخ (محسن) أن يعدل فى الموضوع لفض النزاع بين المتنازعين، حيث قال:
- أذكروا الله ياجماعة...!!... أتريدون الحق؟ ... أم تريدون غيره؟
فقال الحاضرون على لسان واحد:
- بل نريد الحق لا غيره يا شيخ (محسن).
فقال بعد تريث:
- أنا أرى الحق على (مطيع) لـ (ملحان) ... صحيح أن كلاً منهما قد أخطأ، ولكن (ملحان) كان أقرب فى خطئه للصواب من (مطيع) الذى كان بعيداً عنه. فإن كان (ملحان) قد أخطأ فى اثنتي عشرة ليلة فقط فى حسابه فقد أخطأ (مطيع) فى ثمان وثلاثين ليلة.
وهذا ما جعلنى أرجح الحق لصالح (ملحان) على (مطيع). حينها هتف الحاضرون بعدالة الشيخ (محسن) وامتعض (مطيع) لخسارته الرهان بذبيحة من غنمه، وقذفه (أبو مصلح) بشتم هامس:
- (الله يخسّك) يا مطيع..!!.. (ضحك) عليك (حمود) و(ملحان) يا(ثور)!!.
وانفض مجلس تلك الليلة بعد أن استمتع الحاضرون بما لطَّف أجواءه من مشاحنات ومغالطات لم تكن خالية من طابع التشويق التلقائى، والمزاح والدعابة.
هذا وقد اعتاد (حمود) الخروج بسيارته ليلاً ثلاث مرات فى الشهر: أولاهما فى الليلتين أو الثلاث ليالٍ الأولى منه، وثانيتهما فى منتصفه، وثالثتهما فى آخره.
ومع أن (حموداً) لا يخبر أحداً عن سبب خروجه فى هذه الليالى بالذات من الشهر إلا أن البعض يعتقدون أن خروجه فى أوله للبحث عن السعلاة (هلالة) للإتيان برأسها لعمه (عجلان) كما اشترط عليه فهم يزعمون أن (هلالة) لا تخرج إلا في الليالى الأولى للهلال كما يدل عليه اسمها.
ومثل ذلك خروجه في آخر الشهر الذي يزعم البعض أن (حمودا) يختار الخروج فيه للقنص لعلمه أن كثيرا من الأرانب البرية لا يكثر ظهورها إلا في الليالى المظلمة.
أما بالنسبة لخروجه في منتصف الشهر فقد أكد كثير منهم أن (حموداً) يخرج فيه للترويح عن نفسه لدى صديقه الراعي (وضَّاح) الذي يبيت بين أغنامه ليلا في الفلاة وهو راع شاب وسيم، حسن الهندام مهذب الخلق اشتهر بين الناس بمهارته في عزف الربابة بصوت جميل تشنف له الآذان وترق له القلوب.
ويحكى عن (وضاح) هذا أنه عاش قصة حب مع فتاة باهرة الجمال من قبيلته تدعى (مروة) انتهت بالفشل وخيبة الأمل. ولذلك فقد نزح عن قبيلته وآثر العزلة عن الناس مع غنمه وربابته يحل ويرحل وحيدا في الخلاء.
وكان (حمود) كريما سخيا مع (وضاح) فهو لا يأتي إليه إلا وقد حمل معه شيئاً كثيراً من الخبز والسمن وبعض لحوم الأرانب والطيور التي يصطادها أثناء رحلات قنصه الليلية.
وتحت أشعة القمر النيرة الهادئة يطيب التسامر والتنادم بين الصديقين العاشقين ويحلو لهما أن يتقاسما مرارة عشقهما وهيامهما على صوت الربابة وأن يغنيا مع ألحانها الشجية التي تثير كوامن الوجد والغرام.
ولا يفوت (حموداً) أحياناً أن يحضر معه لدى مجيئه لـ (وضاح) شريط (كاسيت) ومسجل لتسجيل بعض المعزوفات الغنائية التي يطرب لها أكثر من غيرها بحيث يمكنه استعادتها متى ما أراد ذلك على مسجل سيارته الجيب حين يغدو ويروح بين غنمه وإبله في الفلاة.
قال (ابن ريحانة) في مجلس الشيخ (محسن) ذات ليلة وهو يحملق في السماء كعادته إن للقمر البدر تأثيرا فاعلا على كثير من الكائنات الحية الحيوانية التي تعيش في هذه المنطقة.
فهي ـ إذن ـ مثلنا نحن بني البشر ـ تبتهج بظهور القمر ويروق لها أن تغادر جحورها في كثير من الأحيان لتستجم تحت أشعته الساحرة في العراء.
ويضيف (ابن ريحانة) بتفسيراته الروحانية ونظرياته الغريبة والجميع ينصتون إليه باهتمام قائلاً:
ـ حتى تلك الحيوانات المفترسة المتوحشة من ذئاب وضباع وثعابين وغيرها يتغير سلوكها العدواني المتوحش في الليلة القمراء ويغلب على طباعها شيء من المسالمة والألفة، بخلاف ما عرف عنها من وحشية في النهار، أو في تلك الليالى التي يفتقد فيها القمر.
وعلى غرابة هذا التفسير الذي أدلى به (ابن ريحانة) عن سلوكيات الحيوانات في الليالى المقمرة ـ وسواء كان (ابن ريحانة) صادقا فيه أو متوهما- فقد أخذه بعضهم مأخذ الجد وراحوا يفسرون من خلاله خروج (حمود الجوعان) في منتصف ليالى الشهر حين يكون القمر بدراً تام الاكتمال.
وقالوا إن خروج (حمود) في هذا الوقت ليس للترويح عن نفسه لدى (وضاح) فحسب، كما يظن البعض وإنما أيضا للبحث عن (ذئب قاع ساق) و(ثعبان ريع الدرب الأسود).
ولأن (حمودا) يعرف كغيره مسبقا أن هذين المخلوقين هما أشد المخلوقات عدوانية ووحشية وخطورة في المنطقة فقد احتاط لنفسه باستغلال تغيير سلوكهما المتوحش إلى أقل وحشية ليلة اكتمال القمر من كل شهر للقضاء عليهما في هذا الوقت بجهد أقل مما يبذله في غيره من الأوقات الأخرى.
ومن هنا تدخل في الحوار (متعب الفطين) الذي يعتبره رجال (الجواعين) أحد الرجال النابهين الحاذقين في الأمور لديهم لاهتمامه الدائم بمتابعة جهاز (الراديو) الذي يمتلكه وما يبثه من أخبار ومعلومات بقوله:
- والله أنا لا أدري يا (جماعة) أين سمعت تفسير (ابن ريحانة) هذا لسلوك الحيوانات؟! أظن أني سمعته في إذاعة (لندن) أو في إذاعة (الرياض) ما أدري .. الله أعلم!! فالأمر ليس بغريب على ذهني وذاكرتي.
وعلى الرغم من ضعف الشاهد الذي أراد به (الفطين) أن يسند تفسيرات (ابن ريحانة) بشئ من القوة إلاَّ أن البعض يرى أن قول (ابن ريحانة) ليس بحاجة إلى سند فهو عالم متبحر لا يجاريه أحد في سعة علمه ومعرفته.
واستغرب (مطيع الذراع) من كون السعلاة (هلالة) مستثناة من تأثير القمر على سلوكياتها بين الحيوانات حيث قال:
ـ و(هلالة) يا (ابن ريحانة)؟!... لماذا لا يؤثر القمر على سلوكها؟!
فضج الحاضرون بالضحك ومن بينهم (حمود) الذي سقطت (شماغه) و(عقاله) من على رأسه من شدة الضحك في حين أجابه (ابن ريحانة):
ـ (هلالة) ليست إنسانا ولا حيواناً ـ كما نعرف جميعا ـ وإنما هي خليط في جنسها وخلقها بين الإنسان والحيوان كما أعتقد. ولذلك فإنه لا يشملها تفسيري الذي ذكرته عن المخلوقات وحيدة الجنس.
ورشق (أبو مصلح) (مطيعاً) بواحدة من شتائمه الهامسة المعتادة بقوله:
ـ عسى (هلالة) تدوس في بطنك وتخلصنا منك!!... اسكت يا أهبل!..
لم يكن (عجلان الجوعان) الوحيد المعني بين (جماعته) بقتل (هلالة) وذئب (قاع ساق) و(ثعبان ريع الدرب الأسود) ولا تقع مهمة قتلها على عاتقه وحده. ولو افترض أنه أراد ذلك ـ بالفعل ـ لما استطاع نظراً لشراسة هذه المخلوقات من جهة ولعجزه البدني عن مجابهتها نتيجة وهن شيخوخته من جهة أخرى.
ولكن المحير في الأمر أن يجعل من قتلها شرطاً على (حمود).. مهراً لابنته (ضحى) بحيث ظهر للناس وكأنه الوحيد المعني بهذا الأمر دون غيره. ثم إن (عجلان) لم يتضرر من هذه المخلوقات جميعها وإن كان بعضها قد ألحق ضررا بغيره من رجال (الجواعين).
وباستثناء ذئب (قاع ساق) الذي قتل في سنة من السنوات ـ كما يعرفه الجميع ـ سبع نياق (ملح) لـ (عجلان) في ليلة واحدة وثعبان (ريع الدرب) الذي التهم (سلوقيه) (نبهان) ذات ليلة يبقى رأس السعلاة (هلالة) شرطا (مقحماً) غير مبرر على (حمود) كمهر (لضحى) لكونها لم تلحق به ضرراً كغيره.
قال (متعب الفطين) ذات يوم لنفر من (الجواعين) أثناء ورود مواشيهم لغدير (وادي الضواري) محاولاً بفطنته إيجاد تفسير واضح لتصرفات (عجلان) الغريبة وشروطه الغامضة على (حمود) إن (عجلان) قد تضرر تضررا ماديا ونفسيا بالغين من ذئب (قاع ساق) وثعبان (ريع الدرب) وهو يؤمن إيمانا كاملا بوجودهما على أرض الواقع وبأنهما لا يزالان حيين.
أما (هلالة) فإنها لم تلحق به أى ضرر يذكر بخلاف غيره ممن ادعوا إيذاءها لهم بأرواحهم وأموالهم حتى لا يصابوا بالعين والحسد ويحدث لهم ما حدث لعجلان من بؤس في حاله وماله.
ولذلك فقد اعتقد (عجلان) أن (هلالة) كائن أسطوري لا وجود له وإنما أراد بها أن تكون شرطا وهميا إضافيا ثالثاً على (حمود) لا يمكنه الوفاء به حتى وإن استطاع الوفاء بالشرطين الأساسيين الواقعيين (الذئب والثعبان). وفي هذه الحالة سيكون سعي (حمود) لـ (ضحى) في (مهب الرياح) أو كمن يطارد سراباً.
هذا ما جعل (متعباً) يتنحى جانباً كي لا يسمعه أحد قائلا بحنق:
ـ خبيث.. ما فيه أخبث منك يا (عجلان)!!
وفي المساء أتى (عجلان) قادماً من بيته إلى مجلس (منصور البو) يتوكأ على عصا حمل عليها وهن شيخوخته ليقول بحسرة غامت لها عيناه حتى كادتا تمطران بالدموع:
ـ والله مصيبة يا (جماعة الخير)..!! إلى متى وأنا أنتظر (رؤوس الملاعين الثلاثة)..؟! إلى متى يارب؟!.
ولأن (حموداً) يعرف أنه المقصود من بين الجالسين بكلام عمه وتذمره هذا فقد أشعل سيجارته بأعصاب هادئة كعادته ثم قال مهمهماً:
ـ صبرك على يا عم (عجلان)..!!.. (وسع صدرك) يا (ابن الحلال) ولا يكون إلا خير إن شاء الله.!!.
وأراد (منصور) أن يستعرض معاناته على الحاضرين ـ وإن كانوا قد سئموها لكثرة ترديدها في مجالسهم ـ موضحا أن (عجلان) ليس وحده الذي يعاني من هذه المخلوقات وإنما الجميع يعانون منها حيث قال:
ـ مصيبتك يا (عجلان) تهون مع مصيبتي.. فإن كان ذئب (قاع ساق) قد قتل لك سبع نياق، والتهم ثعبان (ريع الدرب) الأسود (سلوقيك) فقد أكلت (هلالة) زوجتي (مها) ووليدها.
والخسارة يا (ابن العم) في الأرواح (ما هي بالأموال)، أو (الحلال) الذي يسهل على الواحد تعويضه. ومجاراة للآخرين فقد أراد (مطيع) أن يستعرض معاناته للآخرين هو الأخر قائلاً بسذاجته:
ـ حتى أنا.. أكل الذئب حمار غنمي.؟!
لكن أحداً لم يلتفت إليه.
ومن هنا كان لـ (ملحان الورطة) دوره في الحديث إذ قال بسخريته اللاذعة المعهودة:
ـ صدقوني يا (جماعة) إني لو لقيت ذئب (قاع ساق) ما قتلته.
فأحاطه بعضهم بنظرات مستغربة في حين علق (مطيع) على ما قاله (ملحان) ببساطة:
ـ إن لم تقتله قتلك.
فقال: (ملحان) بروح النكتة:
ـ هذا إذا لقيني ذئب (قاع ساق) أما إذا لقيته أنا فهذا (شيء ثاني).
فضحك الحاضرون باستثناء (ابن ريحانة) الذي كان يمد عنقه منشغلاً بمراقبة النجوم عن هذه النكتة و (متعب الفطين) الذي أراد بفراسته أن يسترعي انتباه بعضهم حيث قال:
ـ لكن.. ألا ترون معي يا (جماعة) أن هناك علاقة غير مباشرة بين (هلالة) وذئب (قاع ساق)؟!.
فسألوه مستغربين:
ـ كيف (علاقة غير مباشرة) يا (متعب)؟
ـ ماذا تقصد؟
ـ ما فهمنا من كلامك أي شيء يا (متعب)..
واستغل (أبو مصلح) الجلبة التي أثارتها مثل هذه التساؤلات الاستنكارية الموجهة للفطين حيث لوى عنقه إلى الخلف قائلا وكأنه لا يريد أن يسمعه أحد:
ـ الله (يبلاك) يا (متعب)..!! ليتك صرت على (راديوك) وأخبار إذاعة (الرياض) وأسعار العلف (أحسن لك) من (هالخرابيط) (اللي) ما فهمنا منها (شي)..
ولكن (متعبا) أصر على أََن يكسب مزيدا من اهتمام الحاضرين وخاصة (ابن ريحانة) حيث قال:
- أنا أريد أن أقول يا (جماعة) إن (هلالة) تخاف من ذئب (قاع ساق) فهي لا تخرج أبدا من الكهوف ومغارات جبال (وادي الضواري) التي تقبع داخلها حين تشم رائحته أو تسمع عواءه مثلنا حتى لو كان هذا في الوقت المعتاد لخروجها في الليالى الثلاث الأولى من الشهر كما نعرف. وأرخى (ابن ريحانة) عنقه التي كان يمدها في اتجاه السماء ثم قال:
ـ والله.. قد يكون قول (الفطين) على شيء من الصواب!!
فإن صح قوله فإن ذلك يعني أن (هلالة) مخلوق (جني) أو قد تكون (إنساً) تلبسه مخلوق من (الجان).
ونحن نعرف جميعا أن (الجن) يخاف من الذئاب سواء كان ذئب (قاع ساق) أو غيره.
وهتف الحاضرون بعبقرية (ابن ريحانة) وحذقه في تحليل الأمور وتفسيرها على نحو منطقي وكأنهم أرادوا بذلك أن يستزيدوا من علمه وسعة معرفته ودقة ملاحظاته عن الكون والمخلوقات، حيث أضاف قائلاً وهو يشير بسبابته إلى نجم (الجدي) في السماء:
ـ تقع منازلنا الآن على ضفاف (وادي الضواري) ويقع (قاع ساق) شمالنا ـ كما هو معروف ـ بينما تقع الكهوف، والمغارات التي تقطنها (هلالة) في المنحدرات الجبلية الجنوبية من (وادي الضواري).
ونحن نلاحظ أن كلابنا تكثر النباح لساعات طويلة من الليل عندما تكون الرياح شرقية أو غربية.. أليس كذلك يا جماعة؟!
واندهش الحاضرون لفطنة (ابن ريحانة) وأحاطوه بهالة من التقدير والإعجاب، وطالبوه بالاستمرار في حديثة:
- نعم..!!.. نعم (يا ابن ريحانة)..!! ثم ماذا؟!
ومضى (ابن ريحانة) يقول:
- هذا يعني أنه عندما تكون الرياح شمالية فإنها تحمل معها رائحة ذئب (قاع ساق) وعواءه مما يثير قلق كلابنا ويجعلها تنبح طوال الليل مما يجعل الذئب يتجنب الخروج من مخبئه في مثل هذه الحالة.
وهذا كله بدوره وإن كان مزعجا لهلالة التي يقلقها النباح والعواء إلا انه ليس مما يشعرها بالخطر على روحها لوقوعها في الاتجاه المعاكس لتيار الرياح بحيث لا تعلم الكلاب والذئاب بمكان وجودها من المنطقة على وجه التحديد. ولذلك فإنها لا تواجه خطورة كبيرة في تنقلاتها لاقتناص فرائسها مادامت الرياح شمالية.
أما عندما تكون الرياح جنوبية فإن (هلالة) تلزم مكانها من الكهوف والمغارات، ولا تبرحها أبدا خوفا من أن تشم الكلاب والذئاب رائحتها مع تيارات الرياح.
ومع هذا الحرص الشديد الذي اتصفت به (هلالة) لحماية نفسها إلا أن الكلاب والذئاب تستطيع بحساسيتها المفرطة أن تشتم شيئا يسيراً من رائحتها المتسربة نتيجة تحركاتها وتنقلاتها القصيرة داخل تجاويف الكهف الواحد الذي تقبع داخله.
ويختلف الوضع تماما عندما تكون الرياح شرقية أو غربية حيث يسود الهدوء الجميع أكثر مما لو كانت الرياح شمالية أو جنوبية.. ولو ... ولو كانت...
وقطع على (ابن ريحانة) حديثه الذي أراد أن يكمله صوت (عثمان الحنبلي) الذي رفعه بالأذان لصلاة العشاء. وبينما هم يستعدون للتوجه إلى مسجد (الحي) فإذا بـ (مطيع) يقول:
ـ مادام الأمر كذلك فإننا لن نقتل ذئب (قاع ساق) حتى يقتل (هلالة).
واستحسن الحاضرون ما قاله (مطيع) في حين همس (أبو مصلح) قائلا:
ـ أول مرة تفكر بشكل صحيح في حياتك يا (مطيع)!!.
ومع أن العبارة التي قالها (مطيع الذراع) قد تبدو ساذجة لبعضهم إلا أن البعض الآخر وخاصة (حمود) قد أسرها في نفسه ولم يستبعدها من ذهنه على الرغم من تظاهره باللامبالاة وعدم الاكتراث بين الحاضرين.
وكان (حمود) ليلتها قد استقل سيارته بعد العشاء، وراح يتجول بين الأودية والشعاب والهضاب بحثا عن الصيد الذي اعتاد على مطاردته في مثل هذه الليالى من الشهر.
فهو أحياناً يشغل (مسجل) السيارة ليستمع أثناء تجواله لبعض معزوفات الربابة التي سبق أن سجلها بصوت (وضاح) ومرة يسلي نفسه بغناء (الهجيني) بصوته الذي تشوبه غصة من الوجد والهيام بـ (ضحى).
وقد يضطر مرة أخرى لقطع الغناء لانشغاله بمطاردة أرنب تلوح له على (أنوار) السيارة ذات اليمين أو ذات الشمال فيسدد إليها رصاصة ترديها قتيلة من فوهة بندقيته التي يندر أن تخطئ هدفها.
ويعود (حمود) بعد منتصف الليل وقد شحن (صندوق) سيارته بعدد لا بأس به من الأرانب والطيور يخصص جزءا منها لنفسه وجزءا ثانيا لعمه (عجلان) و(ضحى) وجزءا ثالثا لمن يعرف عنهم ولعهم بلحم الصيد من عشيرته.
ويقشعر بدن (ضحى) وهي تقلب الأرانب والطيور قبل فسخ جلودها وإلقائها في قدر الطبخ على النار حين ترى تلطخها ببقع الدماء نتيجة اختراق الرصاص الناري لأجزاء متفرقة من أجسادها فتصاب بالغثيان والتقزز الذي ينبش بين جوانحها مدافن الوحشة والشعور بالخوف من المجهول، فتهز رأسها أسفا وتتنهد بأنفاس مهترئة لتقول:
ـ ليتك تركت الأرانب والطيور المسكينة يا (حمود) وقتلت ذئب (قاع ساق) و(هلالة) (والثعبان).!!


(3)
كان فصل الشتاء قد أوشك على الحلول فاستعادت أشجار (وادي الضواري) بعد ظهور نجم (سهيل) كما أعلن (ابن ريحانة) قبل أيام قلائل شيئا من خضرتها بعد أن أذبلها الصيف ولفحتها سموم رياحه الحارة. وها هو (حمود الجوعان) متوقف بسيارته التي شحنها بقطيع من أغنامه في سوق (شمالات) ليبيع منها ما استطاع أن يبيعه كعادته آخر كل شهر.
ويحلو له أن يتجول بين مرافق السوق ليساوم أسعار علف الماشية عند أصحاب تلك الشاحنات الصغيرة المتوقفة على قارعة الطريق:
ـ بكم سعر كيس الذرة (يا ولد)؟
ـ سبعة ريالات.. سبعة فقط.
فيشيح (حمود) بوجهه إلى الناحية الأخرى من السوق وهو يتمتم بصوت نصف مسموع:
ـ الله (يخسك) يا (متعب الفطين) أنت وراديوك..!!
......وتقول لنا إن العلف رخيص؟!
ولا ينسى حمود أن يتجول بين دكاكين السوق الصغيرة المتراصة ليشتري بعض علب السجائر.
ويروق له منظر ملابس الشتاء المعروضة على واجهات المحلات:
ـ آه يا لها من (فروة طفالية) جميلة.! سأشتريها لتقيني برد الشمال القارس هذا العام.
ويتناول إحدى (الفروات) المعلقة فيرتديها ويستعرض بها أمام نفسه خطوتين أو ثلاثا داخل المحل ليعرف مدى ملاءمة مقاييسها لجسمه:
ـ شيء جميل!! سأقهر برد (المربعانية) هذا العام بهذه الفروة.
ولا يفوت (حمودا) أثناء تجواله أن يختلس نظراته الماجنة لبعض النساء اللاتي يتجولن بين محلات العطارة والأقمشة النسائية ويزداد فتنة وهياجا ذكورياً حين يرى إحدى الحسناوات تقلب الأقمشة المعروضة وقد انحسر كم ثوبها عن ذراعها البض العاجي أو تلك التي تقف حانية قامتها أمام (بسطات) النساء بحيث تبرز عجيزتها من وراء عباءتها التي تلف بها جسمها.
ويطيب له أن يقترب منهن على غفلة من عيون من يراقبون السوق وهو يترنم بقصائد (الهجيني) لعلهن يسمعنه أو يعرنه ولو شيئا يسيرا من اهتمامهن:
(يا ليتني راعي الدكان ـ وأبيع زين الرعابيبِ) ـ
(أخير من ديرة الثعبـان ـ وهلالة ومرتع الذيبِ) ـ
وكثيرا ما يصاب بخيبة أمل أو ردة فعل معاكسة لما يريد ويبتغي حين يقترب من بعضهن فيزجرنه أو يكلن له سيلا من الشتائم وألفاظ السب:
ـ (انقلع) عن وجهي..!!
ـ (تف) عليك..!!
ـ يا قليل الحياء.. ما تستحي..؟
ويعود (حمود) عند غروب الشمس لـ (وادي الضواري) بعد أن باع رأساً أو رأسين من غنمه في سوق (شمالات) واشترى ببعض ثمنه ما يحتاجه من مؤونة الطعام والشراب التي تكفيه لآخر الشهر القادم كالأرز والطحين والشاي والقهوة. ولا ينسى أحيانا أن يشترى لـ (ضحى) فستانا أو عباءة أو شيئا من مستلزمات الزينة للمرأة.
وتشمئز (ضحى) وهي تفتش هدايا (حمود) إليها حين تنبعث منها ومن بين ثناياها رائحة السجائر التى يدخنها ودمن الغنم التي (يحرج) عليها في السوق، فتنـبذها جانبا بشيء من الضيق والانزعاج.
وذات ليلة هبت رياح شمالية باردة وكانت (شبة النار) لدى (عجلان) الذي اجتمع في بيته (الجواعين) يتسامرون كعادتهم حول النار متراصين بشكل شبه دائري باستثناء (حمود) الذي انتبذ مكانا قصيا من المجلس مستعيضا عن دفء نارهم بدفء فروته التي تدثر بها متحديا البرد بفخر وزهو لا يحظى به أحد من الحاضرين.. أو هكذا يبدو له على الأقل.
وفي الحرم الداخلي من البيت المفصول بـ (قاطع) يحول بينه وبين (الربعة) التي يجلس فيها الرجال تأتي (حشمة) من بيتها المجاور لتساعد رفيقتها (ضحى) في إعداد طعام العشاء على النار للرجال الذين اعتادوا تناوله بعد صلاة العشاء مباشرة.
وتجدان الفرصة سانحة أحيانا عندما يتطرق الرجال بأحاديثهم العبثية ومداعباتهم الهزلية للزواج والنساء وما رواه الأوائل عنهن من حكايات وقصص وأشعار تتهمهن بالثرثرة، ونكران العشير، وعدم الوفاء.
حينئذ تسرعان بالاندساس قرب (القاطع) للتنصت واستراق السمع من ورائه حتى تنشغلا عن الطعام المعد على النار مما ينتج عنه فوحان رائحة احتراقه التي تتسرب إلى أرجاء البيت فيتنحنح (ملحان الورطة) بخبث قائلاً:
ـ عشاكم احترق يا (الجواعين)..!
وتتنبه (ضحى) و(حشمة) لهذا الإيعاز (الخبيث) من (ملحان) فتنقلبان على أعقابهما مسرعتين تخفان الوطء في اتجاه القدر لتنحيته عن النار. يحدث ذلك كله في الوقت الذي كان يحملق خلاله (ابن ريحانة) في السماء حيث يقول للحاضرين مشيراً بسبابته إلى السماء:
هناك نجم (الإكليل) أول نجوم فصل الشتاء مدته ثلاث عشرة ليلة. ويمضي (ابن ريحانة) في حديثه موردا بعض المسجوعات الفلكية المأثورة عن الفلكيين القدامى حول مطالع النجوم حيث يقول:
- إذا طلع (الإكليل) هاجت الفحول وشالت لها الذيول وتخوفت السيول.
وهنا يوجه (مطيع الذراع) سؤالاً (شاطحاً) لابن ريحانة:
- و(اللكليل) هذا.. ما معناه؟.
فيضحك الحاضرون ومن بينهم (حمود) الذي فغر فاه بالضحك حتى سقطت سيجارته التي كان يدخنها من يده وكادت تلحق بها (شماغه) التي يعتمرها في حين صرف (ابن ريحانة) نظره إلى الجالسين قائلاً:
- اسمه (الإكليل) يا (مطيع) وليس (اللكليل).
وهو إكليل¬ العقرب من نجوم (مربعانية) الشتاء، فيه تهب الرياح الباردة ويخرج فيه كذلك الدخان من الجوف وتتلبد السماء بالغيوم ويخشى من السيول.
ويبد¬و أن (مطيعاً) أراد بسذاجته أن يتمادى في إضحاك الجالسين حيث قال:
- و(الجوف) كم تبعد عن (تبوك)؟!
وانتابت الحاضرين نوبة ضحك استلقى لها بعضهم على ظهره من شدة الضحك. بينما تقع العبارة الأخيرة لابن ريحانة في مسمع (ضحى) و(حشمة) حيث تعلق (ضحى) عليها بصوت هامس من وراء (القاطع):
ـ يخرج فيه الدخان من الجوف..؟ّ! والله إن (حمود) يخرج الدخان من جوفه طول أيام السنة ياناس..!.. في أيام (المربعانية) وفي غيرها.!!
ويقذف (أبو مصلح) مطيعا بعبارة شتم هامسة خرجت من طرف فمه الذي يلفه بأحد ذيول (شماغه):
ـ عسى العقرب تأكل جوفك اليوم قبل (بكرة)..!!
ويقطع على الرجال حديثهم ثوران الكلاب بالنباح وعواء خافت لذئب في أقصى الجهة الشمالية من (وادي الضواري) أخذوا يرهفون له أسماعهم ليستبينوا حقيقة أمره. حينها استخرج (حمود) سيجارة جديدة من جيبه، فأشعلها ومضى يدخنها بصمت مريب.
وازدادت حدة توتر الكلاب بالنباح حين رفع (عثمان الحنبلي) صوته الجهوري بالأذان لصلاة العشاء في حين استغل (حمود) قيام الرجال للصلاة منسلا من بينهم، وقصد سيارته واستقلها متوجها للجهة الشمالية من الوادي.
رياح عاتية تثير الأتربة والغبار وتنفض الأشجار نفضا، وشوشات صاخبة تختلط بصوت دوران محرك السيارة بحيث لا يمكن التمييز فيما بينهما، وظلام دامس على الرغم من استخدام (حمود) للنور العالى لسيارته. وبدا حمود يدرك أن البحث في مثل هذه المعمعة والجلبة مضيعة للوقت والجهد فهو يكاد لا يسمع شيئا حتى لو كان هناك عواء على مقربة منه ولا يرى شيئا سوى الغبار الذي تزيده أنوار السيارة الساطعة والمنعكسة على ذراته غبرة وعتمة ضبابية مما اضطره إلى إطفاء النور والمحرك فهو أجدى له سمعا وبصرا كما يبدو له. وظل حمود جامداً داخل سيارته دون حراك منتظرا هدوء العاصفة.
وبعد مضي أكثر من ساعة هدأت العاصفة فاستوت الأشجار على سوقها بعد أن كادت تقتلعها الريح وأفرغ الجو حمولته من الغبار والأتربة المتراكمة على شكل طبقات رقيقة وناعمة على (كبوت) السيارة وزجاجها الأمامي وعلى جوانب الطريق الرملي الذي يخترق (وادي الضواري).
حينئذ نزل (حمود) من سيارته وأشعل سيجارته بعود ثقاب انبثقت منه حوله هالة من الضوء لم تدم سوى بضع ثوان وترجل السير بمحاذاة أحد الجبال الذي يعتقد أن العواء على مقربة منه.
لم يكن (حمود) يشعر بشيء من الخوف مطلقا خاصة وأنه يحمل بندقيته المحشوة بالرصاص على عاتقه ولكنه أدرك حين توغل في السير أنه أخطأ حين نسي كشافه اليدوي في السيارة ليستعين به على كشف معالم الطريق الذي يسلكه. ومع ذلك فقد أصر على مواصلة طريقه بعد أن أدرك أنه ليس بإمكانه العودة للسيارة للاستعانة بالكشاف اختصارا للوقت والجهد.
وتذكر أثناء ذلك أنه راهن (ملحان الورطة) ذات ليلة على أن بإمكانه السير في الظلام واقتناص الأرانب والطيور من أعشاشها على غصون الأشجار ببندقيته دون الاستعانة بضوء. وتوهجت في نفسه جذوة التحدي لهذا الرهان الصعب حتى خيل له أن سيجارته التي يمسكها بين إصبعيه تتوهج ببصيص من الضوء يكفي لرؤية موطئ قدميه من الأرض وأن الحجارة التي تصطدم بها قدماه أثناء السير تقدح شررا يزيد معالم الطريق الذي يسلكه، وضوحاً وتجلياً.
وفاجأه أرنب مذعور فر من تحت شجرة مر بقربها منطلقا كالسهم حيث سدد إليه فوهة بندقيته بسرعة خاطفة ضاغطا على الزناد لتخرج طلقة فاتكة أصابت الأرنب في مقتله، وسمع لها دوي في الجبال المجاورة مما أثار قلق كلاب (الحي) في الجهة الجنوبية من الوادي وجعلها ترفع أصواتها بالنباح المذعور من جديد.
واستنكر (حمود) بعد أن لف الأرنب القتيل بـ (شماغه) من أن العواء الخافت لازال مستمراً وإن كان على نحو متقطع يصعب تمييزه. فكر في ذلك لحظات لما له من معرفة جيدة بطباع الذئاب فهي مخلوقات عدوانية تكتم أنفاسها حتى عن بعضها حين تشعر بوجود خطر محدق بها وخاصة عندما تسمع إطلاق النار من قبل (حمود) على هذا النحو المرعب.
ولفت نظره خيوط متفرقة من الضوء انتشرت على سفوح بعض الجبال والأشجار من حوله عرف أنها لسيارة قادمة تسلك الطريق الذي أوقف عليه سيارته عند منحدر الوادي.
ولم يكن في الأمر ما يثير استغراب (حمود) فالسيارات كثيرة، ومن يسلكون الطرقات في الليل والنهار أكثر إلا أن ما ضايقه هو وقوف سيارته على طريق ضيق ذي اتجاه واحد بحيث لا يمكن لأي سيارة قادمة أن تجتازه وإلا فإن على سائقها أن يبحث عن طريق آخر يعبر من خلاله إلى الضفة الأخرى للوادي. وتجاهل (حمود) الأمر لانشغاله بتتبع مصدر ذلك العواء الخافت حيث استأنف سيره بصعوبة شاقة متسلقاً أحد الجبال الصغيرة التي اعترضت طريقه.
وانتهى به سفح هذا الجبل الصغير أخيراً إلى واد وعر متشابك الأشجار وكان قد ابتعد عن سيارته بمسافة تقارب (الميلين) فتوقف حيث سمع على بعد مئة متر منه ذلك العواء واستطاع أن يحدد موقعه على الرغم من صعوبة الرؤية في هذا الظلام الدامس.
وتقدم بخطى حذرة متنكباً بندقيته حتى وقف على حافة بئر أدرك أنها مصدر ذلك العواء.
حينئذ أشعل عود ثقاب وحنى قامته ليرى ما في قعرها فشاهد ذئباً يبدو من منظره أنه سقط فانكسرت إحدى ذراعيه.
وأسف (حمود) لهيئته ورق لحاله وداهمه شعور بائس بحزن عميق لم يستطع تفسيره. وازداد شعوره بالأسى حين لم ير من الذئب أي مقاومة تنبئ عن عدوانية شرسة فهو ذئب مسكين جريح بعد أن كان معافى تقشعر لعوائه الأبدان، جائع بعد أن كان شبعان سجيناً مظلوماً في قاع هذه البئر بعد أن كان حراً طليقا منعوتا بالظلم والعدوان يسرح ويمرح في البراري والقفار كيفما يحلو له.
وضحك (حمود) ضحكاً باكيا دمعت له عيناه حين ازور الذئب بعنقه إلى أعلى في اتجاه فوهة البئر مطلقا من حنجرته الجريحة عواء متوجعاً تصدأ له القلوب ألماً وحسرة.
وتلفت (حمود) يمنة ويسرة لعله يجد ما يستطيع به أن ينقذ الذئب فلم يجد حوله غير دلو كبيرة مهترئة الحبال فكر أن يضع فيها الأرنب الذي اصطاده ويرخيها إليه بالحبال إلى قاع البئر.
فالبئر مهجورة ليس فيها ماء وعمقها لا يتجاوز ثلاث قامات وهذا مما شجعه على تنفيذ فكرته. وحين استوت الدلو على قاعدتها في قاع البئر أشعل (حمود) عود ثقاب آخر في الوقت الذي شم فيه الذئب رائحة الأرنب فأقبل نحوها بخطى تنبئ عن حذر بالغ على آخر ما تبقى من وهج عود الثقاب.
وما هي إلا لحظات حتى انقض الذئب بكامل جسمه على الدلو وما فيها بحيث علقت إحدى قائمتيه الخلفيتين بإحدى عرى الدلو المشدودة بالحبال شداً محكماً.
ومن هنا استغل (حمود) هذه الفرصة وانشغال الذئب عما يدور حوله بالتهام الأرنب لما يشعر به من جوع مفرط حيث بدأ يجذب الدلو بحبالها إلى أعلى برفق.
ومع أن الذئب ليس بثقيل إلى ذلك الحد المعتبر من الثقل إلا انه خشي أن ينقطع أحد الحبال المهترئة فتسقط الدلو بما فيها في قاع البئر ومن ثم تبوء محاولة الإنقاذ بالفشل.
وبعد دقائق معدودة استطاع (حمود) أن يستخرج الدلو والذئب. وحينما ألقى بهما جانباً قفز الذئب بعرج واضح من جوف الدلو وأقعى بعيداً على مرمى حجر منه في الوقت الذي راح فيه (حمود) يتحسس جوف الدلو فلم يجد سوى بقايا من دم الأرنب وعظامه.
ولفت انتباهه في حينه صوت منبه سيارة ترددت أصداؤه فيما حوله من جبال مما أثار انزعاج كلاب (الحي) في الجهة الجنوبية من الوادي وجعلها ترفع أصواتها القلقة بالنباح. وهذا بدوره أفزع الذئب الذي ولى هارباً بثلاث قوائم ونصف حمل عليها سقمه وعواءه وجوعه وشبعه وأمله في النجاة.
وارعدت (حموداً) كعادته ضحكة باكية خافتة أمطرت عينيه بدموع باردة زادتها لفحات الرياح الشمالية الباردة على خديه برودة جامدة جافة، ومضى يقول وهو يولي ظهره الذئب الهارب قاصداً سيارته:
ـ إيه..!!.. والله أمرك عجيب يا (سرحان)..!! ما عويت في الدلو على ضيقها والآن تعوي في الأرض على سعتها..!!
قالها (حمود) بنبرة سادرة تنم عن قلق نفسي دفين أعمق بكثير من أن يحتويه مجرد بئر مهجورة أو أن يسبر غوره دلو مهترئة الحبال أو أن ينبشه ذئب بذراع مكسورة ومخالب محطمة.
ربما كان مبعث هذا الشعور البائس الذي اكتنف (حموداً) هو أن ذئب البئر ليس هو ذئب (قاع ساق) الذي ظل يبحث عنه منذ سنوات ليرديه قتيلاً برصاصة فاتكة من فوهة بندقيته التي لا تخطئ هدفها، وبذلك يكون قد استوفى أحد شروط زواجه من (ضحى).
أو ربما لأن الأقدار ساقت قدميه للوقوف على بئر مهجورة في قاعها ذئب جريح جائع ليس في مستوى الخصومة والمواجهة والقوة التي ينشدها (حمود) كرجل يعتد بشجاعته وقوته أمام خصم يفترض فيه أن يتمتع بكامل قواه وأن يكون عنيداً مثله ليحقق شرف التفوق على خصم قوي لا يقل عنه شجاعة وقوة وعناداً.
فالأقوياء لا يعتدون بالتفوق على الضعفاء ولا يليق بهم أن يدعوا من وراء ذلك شرفاً.
يتبــــــــــــع







من مواضيع في المنتدى

التوقيع :

رد مع اقتباس
 
قديم 05-17-2010, 12:13 PM   رقم المشاركة : 2
مسـتــشار الـمـوقـع
 
الصورة الرمزية ابوعبدالمجيد1





الحالة
ابوعبدالمجيد1 غير متواجد حالياً

ابوعبدالمجيد1 is on a distinguished road

كبار الشخصيات وسام الاداره 


 

افتراضي رد: اقدام تنتعل السراب

(4)
كان الليل في ثلثه الأخير حين عاد (حمود الجوعان) إلى سيارته المتوقفة على الطريق الرملي الذي يخترق (وادي الضواري) من ضفتيه الشمالية والجنوبية. حينها هرع إلى استخدام الكشاف اليدوي الموجود في درج السيارة ومضى يقلب بقعة الضوء المنبثقة من شمعته هنا وهناك وكأنه يبحث عن شيء.
لكنه لم يجد سوى آثار لإطارات سيارة توقفت على مسافة قريبة جداً من سيارته التي سدت منفذ الطريق. بدا ذلك واضحاً من خلال آثار إطارات تلك السيارة التي يبدو أن سائقها قد غير وجهته ليبحث عن منفذ آخر بعد أن قرع المنبه الذي سمع (حمود) أصداءه المترددة في الجبال من حوله بعيد إخراجه للذئب من البئر ومنذ أكثر من ساعة مضت.
وكاد أن يطفئ الكشاف وأن يستقل سيارته عائداً إلى بيته لولا أنه فكر في اللحظة الأخيرة بالاستدارة من وراء مؤخرة السيارة والتكشيف حولها. وهنا وجد آثارا كبيرة لأقدام ذئب ببراثن طويلة معقوفة لم ير مثلها في حياته فاتسعت حدقتا عينيه لهول المفاجأة لدرجة أنه نسى أن في يده كشافا حين استل بندقيته بلمح البصر من على عاتقه بكلتا يديه مما جعل الكشاف يسقط مجلجلاً على الأرض.
وبالسرعة نفسها التي استل خلالها بندقيته من على عاتقه تمكن من التقاط الكشاف من على الأرض والقفز إلى مقود السيارة حيث أدار مفتاح التشغيل واندفع بها إلى الأمام حتى لا تمسح إطاراتها تلك الآثار المرعبة من خلفها. وراح يكشف بأنوار السيارة عن يمينه ويساره ومن أمامه وخلفه دون أن يعثر على شيء.
وأخيراً عاد مرة أخرى للآثار الغريبة فغطاها بقدور صغيرة كان يحملها معه في سيارته حتى لا تمسحها الرياح وليتمكن بذلك من اطلاع رجال (الجواعين) عليها في الصباح الباكر حين تشرق الشمس.
لم يكن لدى حمود أدنى شك في أن هذه الآثار لذئب (قاع ساق) وإن لم يكن قد شاهدها قط في حياته فإنها طالما وصفت له كثيراً بهيئتها المميزة من قبل الناس.
كما أن (حموداً) لم يكن ممن يخافون الذئاب إلا أن ما أصابه بالدهشة والذهول وهول المفاجأة هو جرأة هذا الذئب الضاري الذي استطاع بجرأته الدامية، وبما يحمله بين جنبيه من قلب متحجر وبما تفوح به أنفاسه النتنة من رائحة الدماء واللحوم وبما تخطه براثنه على الأرض من أثر يدل على شراسته ووحشيته وعدوانية منقطعة النظير أن يقترب من سيارته بهذا العلن المفاجئ إلى ذلك الحد الذي يجعل (حموداً) قاب قوسين أو أدنى من الموت فيما لو كان موجوداً فيها ساعتها.
عاد (حمود) إلى بيته تلك الليلة مجهداً منهكاً وعلى الرغم من ذلك فإنه لم يستطع النوم إلا لساعة واحدة فقط صحا بعدها على أذان صلاة الفجر الذي رفعه (عثمان الحنبلي).
وأخيراً أخبر (حمود) الرجال بعد انفضاضهم من الصلاة بما وجده ليلة البارحة فركب معه بعضهم في سيارته حتى وقفوا على تلك الآثار المرعبة التي أكدوا جميعهم أنها آثار ذئب (قاع ساق) وليست لمخلوق غيره أبداً.
فذئب (قاع ساق) ذئب يختلف كثيراً عن غيره من الذئاب المألوفة بهيئته وطباعه وسلوكه، ذئب ضخم الجثة ذو مخالب طويلة حادة كأطراف السكاكين... ذئب (إبل) يستطيع بضربة واحدة من مخالبه الفولاذية أن يقتل بعيراً ويأنف بكبريائه الوحشي من قتل الغنم، أو الأرانب أو غيرها من المخلوقات الصغيرة.
وهو بالإضافة إلى ذلك لا يتردد أبداً في قتل إنسان متى ما وجد الفرصة سانحة وهو أيضا صاحب سوابق دامية في سجله الوحشي، منها أنه قد قتل راعي إبل ينتمي لإحدى القبائل المجاورة للجواعين عندما كان يرعى إبله عصر أحد الأيام قبل عامين ماضيين.
ومن السلوكيات الغريبة المحيرة لهذا الذئب أنه لا يقتل ضحاياه إلا من الجهة الخلفية للرأس أو الرقبة وفي بعض الأحيان يتركها قتيلة دون أن يأكل منها شيئاً. ومن سوابقه الدموية المعروفة كذلك قتله لسبع نياق (ملح) في ليلة واحدة لـ (عجلان).
يضاف إلى سجله الإجرامي كذلك اتهامه بقتل (مها) زوجة (منصور البو) ووليدها حين داهمها مخاض الولادة في بيتها ففرت حياء لتضع حملها في الوادي بعيدا عن عيون الناس.
ومع أن (منصور البو) نفسه لم يتأكد لديه بالدليل القاطع أن (هلالة) هي التي قتلت زوجته ووليدها إلا أن هناك غيره ممن لا يستبعدون ذئب (قاع ساق) من دائرة الاتهام بهذه الحادثة الشنيعة.
وحتى لو لم يكن الذئب قد اقترف هذه الفعلة فقد رأى الجميع أن في رصيده الإجرامي من الضحايا الأخرى ما هو كاف لأن يعلنوا عليه سخطهم وغضبهم وانتقامهم وعلى رأسهم (عجلان) الذي كان أول شخص يعلن إهدار دم هذا الذئب (اللعين) على حد تعبيره في أي زمان ومكان.
قال (حمود) وهو يشير بإصبعه للواقفين حوله لآثار الذئب مهمهما بضحكته الخفيفة المعهودة أن هذا الذئب خطر جداً. ومن الخطورة والحذر بمكان بحيث انه جاء بعدوانيته على نحو مخاتل، ليتوقف عند مؤخرة السيارة، ولم يتجاوزها إلى مقدمتها أو جوانبها حتى لا يمكن سائقها من أية فرصة لدهسه أو حتى مجرد رؤيته.
وحين يقول (حمود) مثل هذه المقولة فإنه يريد بها أن يفسر للواقفين حوله على الآثار ممن لم يروها في حياتهم بعضا من سلوكيات هذا الذئب على أرض الواقع والتي طالما سمعوا بها دون أن يشاهدوها.
كما أنه أراد ـ أيضا ـ أن يقارن بين طريقة الذئب في قتله لضحاياه من الجهات الخلفية لرؤوسها ورقابها وبين مسألة وقوفه ومراوغاته المخاتلة من خلف السيارة، مما يدل على وجود تشابه وتماثل في السلوك والطباع والأساليب بين ما كان موصوفا به هذا الذئب وبين ما هو مشاهد ومرئى عنه حاليا على أرض الواقع.
وهـذا (متعب الفطين) في الليلة التالية يتخذ ركناً قصياً من مجلس الشـيخ (محـسن) بـ (راديوه) الذي فتح موجته على إذاعة (لندن) وإلى جانبه (ملحان الورطة).
كان حديث الحاضرين وشغلهم الشاغل يدور حول (حمود) وموقفه الإنساني المتعاطف مع ذئب البئر ومواجهته غير المباشرة مع ذئب (قاع ساق) ليلة البارحة.
وفي هذه الأثناء همس (ملحان) لـ(متعب) بلؤم وخبث:
ـ معقول أن يقع ذئب (قاع ساق) بين يدي (حمود) بهذه السهولة ناقلاً (حتفه على كتفه) ويفلت منه بالسهولة نفسها (سالماً غانماً)؟!
فيجيبه (الفطين) بلهجة مثيرة للشكوك والظنون حول ما رواه لهم (حمود)ومدى مصداقيته:
ـ إيه..!! (يمكن) يكون (حمود) صادقاً..!!.. ولم لا؟! فربما أراد أن يبقي الذئب حياً ـ على الرغم من مقدرته على قتله ساعتها ـ ليقتنص به (هلالة) التي تخشى الذئاب ـ كما هو معروف عنها ـ أولاً ثم يقوم بالقضاء عليه أخيراً.
وحين سمع (ملحان) ما أجابه به (الفطين) تبادر إلى ذهنه لحظتها ما سبق أن قاله (مطيع الذراع) في إحدى الليالي بعفويته وسذاجته المعهودة من أنه لا ينبغي قتل ذئب (قاع ساق) حتى يقتل (هلالة) أولاً. حينئذ لوى (ابن ريحانة) عنقه التي كان يمدها في اتجاه السماء للحاضرين فقال مخاطباً (عجلان):
ـ أنت يا (عجلان) كنت مع (الجماعة) حين وقفوا على الأثر مع (حمود) يوم أمس، فهل أنت متأكد أن هذا الأثر هو نفسه أثر الذئب الذي قتل (نوقك الملح)؟!.
فاستشاط (عجلان) غضباً، ثم قال بنزق:
- كيف تقول هذا الكلام يا (ابن ريحانة)؟... ماذا تقصد؟... هل هذا يعني أنني أكذب؟!
فضج المجلس لتوتر الموقف بين (ابن ريحانة) و(عجلان) حيث تدخل الشيخ (محسن) في حينه مشيراً للحاضرين بأن يلزموا الصمت أو الهدوء على الأقل، فقال (ابن ريحانة) بشيء من الاعتذار:
ـ المعذرة يا (عجلان)..!! فأنا لا أقصد أنك تكذب أبداً، ولكني أقصد أن الأثر الذي وجده (حمود) ليس بالضرورة أن يكون هو أثر الذئب نفسه الذي قتل نوقك.
وصمت (ابن ريحانة) لحظات حتى تأكد لديه أنه استحوذ على اهتمام الجميع بحديثه فمضى يقول:
ـ آثار الذئاب تتشابه فيما بينها إلى حد كبير، ومع ذلك يبقى ذئب (قاع ساق) منفردا عنها بجنسه كما يدل عليه أثره المميز.
ولذلك فإنني أعتقد أن لهذا الذئب سلالة من جنسه تتشابه جميعها في أثرها وطباعها وسلوكياتها. أريد أن أقول ـ باختصار ـ أن ذئب (قاع ساق) من أصل (مهجن) أحد أبويه ذئب والآخر كلب. والفصيلة (الكلبية) تتراوح أعمار أفرادها ـ كما نعرف ـ بين عشرين إلى ثلاثين عاماً كحد أقصى.
فهل يعقل يا (جماعة) أن يكون هذا الذئب هو نفسه الذئب الذي قتل نوق (عجلان) قبل أربعة أعوام، وهو الذئب نفسه ـ أيضا ـ الذي قتل زوجة (منصور) ووليدها قبل عشرين عاماً مضت..؟!.. أم أنه ذئب آخر من نفس جنسه وسلالته؟!
ومع أن كلا من (عجلان) و(منصورا) المعنيين بهذا الكلام لم يعلقا على ما سمعاه لا بإثبات ولا بنفي إلا أن البعض يرى فيما قاله (ابن ريحانة) شيئا من المنطقية والواقعية.
ويبدو أن (ملحان الورطة) قد استشعر من ملامح الحاضرين سأمهم ومللهم من الحديث عن الذئاب وأجناسها وطباعها وسلوكياتها فأراد أن يذكي جذوة المشادات الكلامية فيما بينهم من جديد حيث قال:
ـ شبعنا من (السوالف) عن ذئب (قاع ساق) وعن (هلالة) لكنا ما سمعنا شيئا (من زمان) عن (ثعبان ريع الدرب الأسود).
وأحس (عجلان) أنه المعني بين الجالسين بما قاله (ملحان) لكونه المتضرر الوحيد من بينهم من هذا المخلوق فقال بانفعال حاد:
ـ أنا.. أنا.. قلت لكم أنه أكل سلوقيي (نبهان)!!
وهنا كانت الفرصة سانحة لشتائم (أبي مصلح) الهامسة:
ـ قطع الله لسانك يا (ملحان).!!
وتدارك (منصور) الأمر في حينه قبل أن يصل الانفعال بـ (عجلان) إلى حد يفقده وقاره ورزانته بين الحاضرين حيث قال:
ـ كثر الكلام ما منه منفعة يا (جماعة) وقصة (عجلان) كلنا نعرفها.
وأراد (متعب الفطين) أن يقلل من أهمية ما قاله (ملحان) من كلام يرمي إلى التشكيك في قصة (عجلان) مع الثعبان وبأنها وهم من أوهام الشيخوخة والتخريف الذي أصيب به عقله نتيجة تقدمه في السن قائلاً:
ـ (عجلان) أكبرنا جميعاً وأعقلنا وهو أدرى بما أصابه من غيره.
وأضاف (متعب) وهو يرنو ببصره إلى (ابن ريحانة) قائلاً:
ـ أليس كذلك يا (ابن ريحانة)؟!
فلم يكن من (ابن ريحانة) حين شعر بضرورة تدخله في الموضوع إلا أن قال:
ـ المسألة ليست مسألة كبر وصغر وعقل وما حدث (لعجلان) قد يحدث لأي واحد منا - نحن الحاضرين ـ في هذا المجلس. لكني أعتقد أن (عجلان) عندما حدثت له هذه القصة في تلك الليلة كان في حالة بين النوم واليقظة.
وهي حالة طبيعية لا شعورية تحدث لبعض الناس من صغير وكبير وخاصة أولئك الذين يصابون بالإجهاد والتعب الشديدين ويختلط فيها الحلم باليقظة والواقع بالمتخيل.
وإلا.. فماذا يعني ـ إذن ـ أن يلتهم ثعبان (سلوقياً) ضخما كـ (نبهان) دون أن يترك أي دلالة على هذا الفعل كالأثر وبقايا الدماء والعظام واللحم؟!
وسكن غضب (عجلان) قليلاً بعد أن انتفخت أوداجه لكن (ابن ريحانة) سرعان ما بادره بسؤال غريب قائلاً:
ـ .. لكن أريد منك يا (عجلان) أن تتذكر في أي فصل من فصول السنة حدثت لك هذه القصة على وجه التحديد؟!.
ورنت عيون الحاضرين لـ (ابن ريحانة) بنظرات مفعمة بالذهول والتوجس لكن (عجلان) استطاع أن يتمالك نفسه حيث قال بعد لحظات:
ـ في الخريف... نعم في الخريف قبل أربعة أعوام.
فقال (ابن ريحانة) وهو يزور بعنقه ناحية السماء:
ـ الخريف يستمر لبضعة أشهر لكن هل تستطيع أن تقول لي: أكان ذلك في أوله أم في وسطه أم في آخره؟
فأجابه (عجلان) بعد تردد قائلاً:
ـ أظنه... أظنه كان في أوله.
وظن (عجلان) أن (ابن ريحانة) قد اكتفى بإجابته هذه على أسئلته الممعنة في الغرابة والفجاجة إلا أن الأخير سأله:
ـ وهل كنت نائما تلك الليلة بلا غطاء أو لحاف؟
فهز (عجلان) رأسه بالإثبات، وتورم المجلس بصمت على وشك أن تفجره إبر النظرات الحادة لعيون الجالسين في حين استنشق (ابن ريحانة) نفسا عميقا تنهده على شكل زفير منهك ثم قال:
ـ أنت إذن... كنت نائما تحت أديم السماء وقت طلوع نجم (الجبهة).
وهذا الوقت لا يحمد فيه النوم تحت السماء دون لحاف لكونه يغشى النائم بكوابيس مزعجة وخيالات زائفة.

(5)
في ظهيرة أحد الأيام كان (حمود الجوعان) قد ترك إبله في الجهة الشرقية العليا من (وادي الضواري) واتجه متأبطاً بندقيته إلى الجهة الغربية السفلى منه.
وأثناء سيره سمع جلبة ولغطاً على مقربة منه فاندس تحت شجرة صغيرة أطل برأسه من بين أغصانها المتهدلة نحو الأرض فشاهد بعض راعيات الأغنام يغتسلن بمياه أحد الغدران عاريات الرؤوس بملابس ضيقة تصف بعضا من مفاتن أجسادهن الغضة الناعمة.
كن يضحكن بأصوات مرتفعة ويمازحن بعضهن بخضخضة الماء بأرجلهن وأيديهن فاستهواه المنظر وراق له أن يشبع فضوله الرجولي الملح بمتابعته.
ولم تدم متعته طويلا إذ نبحه أحد كلابهن فتنبهن لوجوده تحت تلك الشجرة مما أفزعهن وجعلهن يتسترن ببعضهن حتى أن إحداهن تشجعت على الخروج من الغدير بثوبها المنحسر عن ساقيها وأمطرته بوابل من الحجارة قذفته بها حتى غاب عن النظر وهو يهمهم بضحكاته المقتضبة الخافتة التي لا يسمعها أحد غيره ويقول لاهثاً:
ـ لعنك الله من كلب..!! كشفني لهن..!!
لم يصب (حمود) بأذى من تلك الحجارة التي رجم بها نتيجة استفحاله الشيطاني لكنه تمنى في حينه ألا تكون (ضحى) أو رفيقتها (حشمة) من بينهن فيتسرب خبر تمرده الشهواني إلى عمه (عجلان) وبالتالى ينفضح أمره بين الناس.
وفي مساء اليوم نفسه كانت (شبه نار) كعادة (الجواعين) في بيت (عجلان) فلم يلاحظ (حمود) من ملامح الحاضرين أو كلامهم أي شيء يدل على انكشاف قصته ظهر اليوم مع راعيات الأغنام على الغدير فتأكد لديه أن الأمر قد مر بسلام.
كان القمر بدراً، والسماء صافية إلا من بعض ندف السحب الرقيقة القطنية الخفيفة التي يزيدها نور القمر المتسرب خلالها توهجا في الأفق في الوقت الذي كانت فيه شعلة نار (الجواعين) التي يتحلقون حولها في بيت (عجلان) بعد صلاة العشاء تخبو مكونة طبقات من الرماد المتهالك في (الوجار) تشع من تحته جمرات أوشكت على الانطفاء والخمود.
وانفض المجلس حيث هرع (حمود) إلى سيارته واستقلها متوجها إلى الجهة الشمالية من (وادي الضواري).
كان مترددا بين أن يتوجه إلى (وضَّاح) كعادته في منتصف كل شهر وبين أن يتجول بين ضفاف الوادي للقنص.
وحين توغل في السير باتجاه أقصى الشمال من الوادي لفت نظره تصاعد غبار رقيق على ضوء السيارة وعلى مقربة من (قاع ساق) الذي يقطنه الذئب المعروف.
كان الأمر بالنسبة لحمود وليد اللحظة التي لا تقبل التأخير أو التأجيل حيث أخمد محرك سيارته ونورها، وترجل السير متأبطاً بندقيته بمحاذاة هضاب صغيرة تحيط بالقاع وتمتد بطوله لبضعة (كيلو مترات). لم يشاهد (حمود) آثاراً ذات أهمية أثناء تفحصه لطريقه، فالقاع ذو أرضية متماسكة وليس من السهل ظهور الآثار عليها بشكل يقطع الشك باليقين كما أنه ليس بحاجة للاستعانة بضوء لسطوع القمر واكتماله.
ومع أنه ابن المنطقة ويعرفها شبراً شبراً إلا أنه وجد ـ لحظتها ـ صعوبة في تحديد الاتجاه الذي يجب عليه السير فيه لتعيين هدفه، فالقاع كبير ومنبسط على امتداد النظر والبحث فيه عن شيء أشبه ما يكون بمحاولة البحث عن (إبرة سقطت في كثيب رملي).
شاهد أثناء سيره عددا من الأرانب تقترب منه على بعد خطوات وثعلباً يراوغه عن كثب، وضبعاً هناك مقعياً بهدوء على صخرة لا تبعد عنه أكثر من عشرين متراً.
وبدا له أن هذه المخلوقات ـ على اختلاف أجناسها وطباعها من ألفة وتوحش ـ مخلوقات تتسم بسلوك مهادن ومسالم بشكل أكثر مما كان يتوقعه ويعرفه عنها من قبل.
حينئذ تبادر إلى ذهنه ما سبق أن قاله (ابن ريحانة) ذات ليلة عن سلوكيات المخلوقات في الليالى المقمرة فداخله شعور بارتياح غير طبيعي شك في أنه نتيجة تأثره بما تأثرت به هذه المخلوقات من حوله.
وبعد أن قطع مسافة تبعد ثلاثة (كيلو مترات) عن النقطة التي ترك عندها سيارته انزوى خلف صخرة كبيرة رأى أنها مناسبة لمهمته لكونها تقع على مرتفع هضبة صغيرة يستطيع من خلالها مراقبة ثلثي مساحة القاع على الأقل.
وعلى الرغم من كثرة الصيد إلا أن (حموداً) تجنب تماماً أن يطلق رصاصة واحدة من بندقيته أو أن يقذف مخلوقا بحجر أو أن يصدر حتى مجرد حركة بسيطة تكشف وجوده أو تدل على موقعه.
وتذكر وهو يجيل نظره بالقاع من جميع جهاته ما قاله عمه (عجلان) ذات مرة من أن (قاع ساق) سمي بهذا الاسم منذ زمن بعيد لكون الناس الذين يريدون اجتيازه يشمرون ثيابهم عن سيقانهم مخافة أن تلحق بهم سباعه الضارية أو أن توقعهم فرائس لها.
كان الليل في منتصفه والقمر يتوسط كبد السماء حين اشتاق (حمود) لأن يشعل (سيجارة) يكوي بها لواعج وحشته ووحدته، وما يعتمل بين جوانحه من قلق الانتظار وينداح في عينيه الصغيرتين من سراديب العزلة ودهاليزها المخيفة لكنه أدرك في حينه أنه قد نسى علبة سجائره مع أعواد الثقاب في سيارته عند مغادرته لها. وأَطفأَ توقد روحه وتململ أنفاسه الحرى بتنهيدة خافتة سمع لها دبيبا مبحوحا في الصخرة التي كان يسند إليها ظهره.
لم يكن (حمود) ممن يحقدون على الذئاب أبدا وإنما كان ممن يكرهونها،كما أنه لم يكن ممن يخافونها لكنه كان ممن يحذرونها حذرا جعله أقرب للموت منه للحياة، فهي مخلوقات عدوانية تطارده في أحلامه ويقظته،أكلت بعضا من أفراد عشيرته ومواشيهم، بل بلغت درجة العدوانية بها أن تجعل منه رجلاً محطماً على أعتاب الأربعين يعيش بين أفراد قبيلة اشترطت رؤوس الذئاب والمخلوقات الشرسة مهوراً لبناتها لتزوجيهن من رجال في خريف أعمارهم تقطر من أيديهم الدماء وتفوح من أجسادهم وملابسهم رائحة (البارود) والدخان، وتتعفر رؤوسهم ووجوههم وأرجلهم بتراب الطرقات والكهوف والمغارات الموحشة للبحث عن مخلوقات عدوانية (شبه أسطورية) واقتناصها كـ (هلالة) وثعبان (ريع الدرب الأسود).
إنهم يعرفونها ولا تعرفهم، ويصفونها لبعضهم ويستعصى على أذهانهم أن يكون لوجودها شكل أو لون أو رائحة وتقتلهم ولا يجد حيهم لمقتولهم بقيا من أثر أو دم أو لحم أو عظم ويعيشون لتميتهم إماتة بطيئة بهاجس الموت والهلاك، والخوف من كل شيء.. بل من لا شيء..!!
وعنت لـ(حمود) صورة (ضحى) كما رآها آخر مرة على غدير (وادي الضواري) قبل أيام.
كانت تبدو في مخيلته أقل جمالاً وإشراقاً هذه الليلة مما كانت عليه في الأمس القريب.
وساوره شك ـ للمرة الثانية ـ في أن شعوره غير طبيعي ربما لكون القمر قد بدأ يتزحزح عن موقع سطوعه البدري من كبد السماء إلى جهة الغروب.
واغرورقت عيناه الصغيرتان اللامعتان بدموع سرابية زادها نور القمر وانعكاسه على بياض الطين اليابس للقاع لمعاناً ووميضاً متموجاً، حتى خيل إليه أن القاع بما فيه وما حوله يتحرك على أمواج متلاطمة من سراب (ظهيرة ليلية مقمرة).
هناك على حواف القاع البعيدة أشجار تتحرك وأخرى تنحني فروعها إلى الأرض وثمة هضاب تتداخل ببعضها.
وعلى الجهة المقابلة منه حيوانات مقعية وأخرى باسطة أذرعتها وألسنتها تتدلى لتلغ (سرابا ليلياً) موغلاً في الجفاف والحرقة والعطش.
كان الليل في ثلثه الأخير حين ترك (حمود) الصخرة التي كان ينزوي وراءها متوجهاً لسيارته.
لم يشأ هذه المرة أن يأتي سيارته من مقدمتها، بل التف في الاتجاه المعاكس ليتقدم إليها من مؤخرتها.
ولما أطل عليها من هضبة تحول بينه وبينها رأى بوضوح ذئباً ضخماً باسطاً ذراعيه عند مؤخرتها وثلاثة جراء صغيرة تحت (الدعامة) الخلفية لها يبدو أنها تلغ قطرات الماء التي تتسرب من خزان المياه الحديدي المثبت في هيكلها مكونة عروقا مائية صغيرة متعرجة بين شقوق طين القاع.
لم يكن الأمر مفاجئاً بالنسبة إليه هذه المرة لكنه كان قد تهيأ نفسياً وبدنياً لمواجهة مثل هذه المواقف مهما كانت نتائجها.
حينئذ توقف في مكانه بطول قامته لحظات ثم تابع سيره بتؤده مسددا فوهة بندقيته في اتجاه ما يراه حتى كان على مسافة لا تبعد عن سيارته أكثر من مئة متر، فأقعى خلفها وأسند إليها (سبطانة) بندقيته. كان يرى على (عيار) البندقية المرتكز قرب حافة فوهتها كل ما أراد أن يراه وما كان يحلم برؤيته منذ سنوات.
ذئب (قاع ساق) اللعين كما ينعته عمه (عجلان) وجراؤه حوله يستطيع أن ينظمها جميعها بطلقة واحدة تخترق قلوبها كما تنظم حبات الخرز في الخيط..!!
وساوره شك ـ للمرة الثالثة ـ في أن ما يراه غير طبيعي فهذه المخلوقات تراه كما يراها، بل ربما كانت قد شمت رائحته من بعد قبل أن تراه ومع ذلك لزمت الهدوء والسكون وكأنه ليس هناك ما يعكر صفوها أو يشعرها بالخطر على أرواحها.
أربعة أشياء لا خامس لها تتحد مع بعضها بانسجام برزخي بين الحياة والموت في هذه اللحظة الآنية الحرجة العصيبة ولا يعرف (حمود) غيرها: عقله في رأسه وقلبه في صدره وعينه على مرمى الهدف، وإصبعه على (الزناد).
وتبدو الجراء الصغيرة على (عيار) البندقية لـ(حمود) لاهية ووديعة تلعب بذيولها وتتدلى ألسنتها الصغيرة لاهثة بحثا عن آخر قطرات الماء التي يتشربها الطين بينما يبسط أبوها ذراعيه باسترخاء متهدل يشى بلغط سرابي محموم.
مكث (حمود) في مكانه كما هو قرابة نصف ساعة دون أن يستجد شيء على ما حوله من ساكن ومتحرك.
وتقدم بخطى حذرة مسافة خمسين متراً أخرى في اتجاه الهدف حتى كان على أقرب مسافة منه بحيث يمكنه رؤية هدفه وأدق تفاصيله، بل بلغت درجة اقترابه منه حداً جعله يسمع وقع أقدام الجراء اللاهية على الأرض ولهاث أبيها بأنفاس متقطعة ترتج لها عضلات بطنه بين انقباض وانبساط.
كان القمر يتزحزح ناحية الغرب، وثمة طيور تزقزق في أوكارها على قمم بعض أشجار القاع مبشرة ببوادر الفجر ومولد الصباح الجديد.
وها هو (حمود) يسدد فوهة بندقيته في اتجاه هدفه للمرة الثانية لكنه يرى على (العيار) هذه المرة خيطاً نحيلاً مبهما ينجر في اتجاهه من وراء الذئب، ويتعرج في خطوط غير منتظمة الشكل بين شقوق الطين.
ومع أنه على يقين تام بأن الذئب وجراءه على دراية بوجوده على مقربة منها إلا أنه اصطنع التنحنح وتعمد (طقطقة) سبطانة بندقيته على الصخرة التي يسندها إليها ليكتشف بذلك ردة فعلها الحركية بعد أن أفحمته بسكونها المريب.
وعلى الرغم من ذلك فإنه لم يحفل منها بأكثر من استدارة رقابها إليه بوجوهها المغبرة وألسنتها المتدلية.
وأخيراً نهض من مكانه واتجه نحوها مسدداً بندقيته في اتجاهها حتى كان منها على مسافة بضعة أمتار فاعترضته الجراء الصغيرة التي زادت بأرجلها من تعرجات الخيط المبهم الممتد فيما بينه وبينها.
كانت الجراء تدور حوله بوداعه تلعب بذيولها وأرجلها وتلعق بألسنتها المتدلية شدوقها المنحسرة عن أنياب صغيرة لاتزال في طور النمو المبكر.
أما أبوها فقد كان جاثما في مكانه يحملق فيه بعينين محمرتين وأجفان متورمة بسهاد سرمدي مزمن.
وعلى جانب شدقيه تيبس غبار كان قد التصق بلزوجة لعابه بعد جفافه.
لم يكن من (حمود) لحظتها إلا أن قام بتنحية بندقيته جانبا ملتقطاً أحد الجراء بيديه من على الأرض حيث وجد من خلال تلمسه لقوائمه أن ذلك الخيط المبهم لم يكن سوى خيط من دم قان ينز من جرح بأحد أعضاء أبيه الذي لا يزال باسطاً ذراعيه بانكسار وخنوع لا يليقان بهيبة ذئب (قاع ساق) ولا بعنفوانه الوحشي المكابر ولا حتى باسمه الذي تقشعر له الأبدان لمجرد ذكره.
كانت أشعة الفجر قد بدأت تتسلل إلى الأفق من جهة الشرق في الوقت نفسه الذي كان فيه القمر يتزحزح إلى جهة الغرب مفتقداً جزءاً كبيراً من وضاءته وبريقه في حين كان (حمود) واقفاً بطول قامته وعلى مقربة لا تزيد عن مترين من ذئب (قاع ساق) الجاثم المصاب بجرح بليغ نازف في خاصرته.
كان يريد أن يلمس جرحه لعله يستطيع معالجته أو إيقاف نزيفه على الأقل لكن الذئب أبى أن يمكنه من ذلك لفرط ما يشعر به من ألم ووجع، فالذئاب مخلوقات متوحشة وجراحها أشد منها توحشاً إذ لم تعتد أن تمسها يد البشر منذ أن خلقت حتى وإن كانت بقصد المعالجة والمواساة.
وشاهد حمود بوضوح آثار أقدام ذئَب (قاع ساق) على أرضية القاع من الطين المبتل بقطرات الماء المتساقطة من خزان السيارة، فوجد أنها هي نفسها الآثار التي وجدها عند سيارته قبل عدة أسابيع مضت وجلب نفرا من (جماعته) الجواعين معه لمشاهدتها والتعرف عليها.
كان بإمكان (حمود) أن يقضي على آخر ما تبقى من أنفاس ذئب (قاع ساق) بطلقة واحدة من بندقيته وأن يلحق به جراءه الثلاثة ببساطة متناهية لكنه تراجع عن ذلك كله.
وكان كل ما فعله في نهاية الأمر هو أن قدم للذئب الجريح وجرائه كل ما في حوزته من خبز ولبن وماء وغادر المكان بسيارته وهو يهمهم بضحكته الخفيفة الباكية كعادته:
ـ ذئب (قاع ساق) جريح؟!.. أظن أنك على أعتاب الأربعين مثلي أيها الذئب الهرم.
وهبت نسمات شمالية باردة رفعت لها كلاب الحي في الجهة الجنوبية عقيرتها بالنباح في الوقت الذي كان فيه (عثمان الحنبلي) يرفع صوته الجهوري بأَذان صلاة الفجر.
لقد كان ذلك الخيط الدموي آخر خيط يربط حموداً بذئب (قاع ساق) وبقصته كاملة معه. ولا يريد أن يتمادى في التمسك بالمزيد من الخيوط الدموية اللزجة التي تزيد من التصاق يديه بالدماء وجراحها النازفة من أجل ثأر يدعيه أو شرف يبتغيه أو مهر يؤديه أو امرأة ينكحها.


(6)
لم يخبر (حمود الجوعان) أحداً بموقفه من ذئب (قاع ساق) وجرائه في تلك الليلة، بل كتم الأمر عن الجميع واحتفظ به سراً لنفسه.
كان يخشى أن يكون عرضة للوم والتثريب من قبل (جماعته) وخاصة من قبل عمه (عجلان) وربما انتقدوا تصرفاته ووصفوه بالحمق والغباء والجبن.
وبعد مضي أسبوع واحد على تلك الحادثة كان (حمود) يرعى إبله في الجهة الغربية السفلى من (وادي الضواري) فشاهد في وضح النهار غباراً كثيفاً يتصاعد في الجو من جهة الغرب وسمع جلبة وضوضاء مربكة جفلت لها إبله، وجعلت كلاب الحي ترفع أصواتها بالنباح على غير عادتها.
فارتاب في الأمر واعتلى قمة أحد الجبال ليرى عن بعد رتلا من السيارات والشاحنات والآليات وجموعاً غفيرة من الناس بين راكب وراجل.
وسرعان ما انحدر من الجبل متوجهاً لسيارته فاستقلها قاصداً تلك الجموع حتى توقف على مقربة منها.
رأى رجالا قصار القامة ذوي وجوه مستديرة وعيون صغيرة يرتدون (بنطلونات) ويعتمرون قبعات مختلفة الألوان والأشكال ويبدو من ملامحهم وهيئاتهم أنهم ليسوا من جنس عربي.
حينئذ أطفا محرك سيارته ومشى مترجلاً حتى غاص بينهم.
كانوا يتكلمون مع بعضهم بلغة لا يفهم منها شيئاً، ويحيطونه بنظرات تصاحبها ابتسامات جامدة متكلفة، وإيماءات وإشارات برؤوسهم وأيديهم اعتقد (حمود) أنها تعني الترحيب به.
وعن يمينه وشماله كانت هناك رافعات آلية تحط عن ظهور الشاحنات المتوقفة بسائقيها (تراكتورات) مجنزرة وحفارات وحاويات مغلقة ومعدات وأجهزة وأشياء أخرى لم يشاهد مثلها من قبل.
كان الأمر بالنسبة إليه يبدو وكأنه في حلم لم يستيقظ منه بعد. والتقاه أحد الرجال الذي استطاع أن يتفاهم معه بالإشارات بصعوبة عما يريد حيث أشار إليه بالمشي خلفه بين الشاحنات حتى توقف به عند سيارة واقفة في مؤخرة الرتل الطويل من السيارات والشاحنات المتوقفة أمامها.
كان في هذه السيارة شخصان نزلا إليه عندما رأياه قادما إليهما، أحدهما يبدو من ملامحه أنه (سعودي) يلبس ثوبا ويعتمر (شماغا) و (عقالاً) والآخر مكشوف الرأس ويرتدي (بنطلوناً) يبدو أنه من جنسية عربية أخرى.
والتقى الثلاثة جميعهم فعرفهم (حمود) بنفسه في حين عرفه السعودي كذلك بنفسه قائلاً إن اسمه (عبد الرحمن الحوذي) وهو سعودي مدير مشروع سفلتة طريق الشمال والمشرف على الأعمال الميدانية للشركة (الكورية) المتعاقدة مع وزارة المواصلات لتنفيذه.
أما الآخر فقال إن اسمه (مصطفى الهيري) وهو (مصري) الجنسية مختص بهندسة الطرق ويعمل مساعداً لمدير المشروع.
وسر (حمود) أيما سرور لما لقيه من هذين الشخصين من لطف ومودة وترحيب على الرغم من التقائه بهما منذ دقائق معدودة، وبدا له أنه يعرفهما منذ فترة طويلة.
وكذلك كان شعوره تجاه العمال من حوله الذين يكثرون من تبسمهم له ومن إزجاء تحياتهم له بأيديهم ورؤوسهم وبالإشارات والإيماءات المعبرة.
وانبهر (حمود) وهو يوزع نظراته الفضولية على من حوله من العمال الدائبين بعملهم كخلية نحل، وأدهشه خفة حركتهم ومرونتهم في التعامل مع بعضهم وهدوءهم على الرغم من الصخب والضوضاء والجلبة التي تثيرها الآليات والمعدات والأجهزة المستخدمة.
قال مدير المشروع (عبد الرحمن الحوذي) لـ(حمود) محاولاً امتصاص ما ارتسم على ملامحه من علامات الاستغراب ودهشة الموقف:
ـ منطقتكم ـ يا أخ حمود ـ جميلة ورائعة وستكون أجمل وأروع حين يمر خلالها طريق (مسفلت) يسهم في تطورها ونموها كبقية مناطق المملكة وهذا ما جئنا من أجله أصلاً.
ومع أن (حموداً) لم يستوعب ما قاله (عبد الرحمن) استيعابا كاملا نظراً لبساطته وقصور فهمه في كل ما يمت لهذه الأمور بصلة إلا أنه استشعر من كلامه ما كان كافيا لتبديد دهشته حول كل ما يراه وما يسمعه.
ومن هنا كان الحديث للمهندس (مصطفى الهيري) الذي أضاف قائلاً:
ـ ليس هذا فحسب، وإنما أهل المنطقة رائعون وطيبون أيضا، ونحن يا أخ حمود لا نستغني عن مساعدتكم في عدم إيقافكم سياراتكم أو اتخاذكم المساكن والمنازل على مقربة من منطقة عملنا أو اعتراض مواشيكم من إبل وغنم لأعمال الشركة أثناء تنفيذها لمشروع هذا الطريق.
كان الأمر ـ بالنسبة لحمود ـ يبدو غريبا وغير واضح فهو لأول مرة في حياته يرى ويسمع مثل هذه الأعمال والأقوال وهو وإن كان لا يتقبلها أو يستوعبها بسهولة فإنه يعرف في قرارة نفسه أن الأمر أكبر من أن يرفضه أو يعترض عليه أو حتى أن يبت فيه بشيء من قول أو فعل.
والأستاذ (عبد الرحمن الحوذي) ومساعده المهندس (مصطفى الهيرى) عندما يقولان هذا الكلام لـ (حمود) وأمثاله من سكان منطقة (وادي الضواري) يعرفان من خلال خبرتهما الطويلة وعملهما في مجال الطرق والمواصلات أن سكان البادية مجتمع يصعب التعامل معه بالرسميات أو التعليمات الصريحة والأوامر الإدارية الجادة وليس من السهل إقناع جميع أفراده بين ليلة وضحاها بضرورة التعاون المشترك من أجل مصلحة عامة أو تنظيمه على نحو يمكن الاستفادة منه في منظومة العمل الموحد المتكامل ومجرياتها. قال حمود وهو يهمهم بضحكته الخافتة المعتادة:
ـ ومتى.. ومتى تنتهون من (سفلتة) هذا الطريق؟
فأجابه المهندس (الهيري) ببشاشة وجه:
ـ العقد الذي أبرمته الوزارة مع الشركة مدته خمس سنوات... (تصور) يا أخ حمود ـ خمس سنوات فقط، وستكون منطقتكم متطورة تزدهر على أرضها التجارة والعقار، وتقام على جنبات هذا الطريق الذي تراه محطات الوقود والمحلات التجارية والمخططات السكنية.
ومن هنا تدخل الأستاذ (الحوذي) في الحوار قائلاً:
ـ ليس هذا فحسب، وإنما ـ نحن عمال الشركة ـ لا نستغني عن مساعدتكم في عملنا لتنفيذ جميع مراحل هذا المشروع.
وبدأ (حمود) يدرك من كلام الهيري والحوذي أنه يحظى بأهمية خاصة من قبلهما لكنها لم تتضح له بعد حيث قال:
ـ وبماذا نستطيع مساعدتكم؟
فقال (الحوذي) وهو يلوح بيديه ذات اليمين وذات الشمال :
ـ يعني.. كما ترى يا (حمود) الشركة وأعمالها، فنحن مثلا بحاجة إلى (حراس أمن ليلي) من أهل المنطقة على مخيم الشركة ومرافقها وممتلكاتها من سيارات وأجهزة ومعدات وتموين للحفاظ عليها من السرقة أو النهب والاختلاس.
ولمعت عينا (حمود) الصغيرتان ببريق يوحي بالطمع والرغبة في اغتنام الفرص التي تزيد من أهميته والحاجة إليه حيث قال وهو يتظاهر بالهدوء والتثاقل:
ـ لكن ماذا.. ماذا عن..؟
فبادره (الهيري) بقوله:
ـ آه..!!... نعم!! نعم!!.. تقصد.. ماذا عن المرتب الشهري الذي يتقاضاه كل حارس أمن لدينا في الشركة؟! أليس كذلك؟!.
فهز حمود رأسه إيجاباً في حين قال (الهيري):
ـ ألف وخمسمائة ريال شهريا لكل حارس أمن ليلي يعمل لدينا هنا فضلا عن توفير السكن والإعاشة على أن يتعهد بالعمل معنا لمدة خمس سنوات.
واتسعت حدقتا عيني (حمود) الصغيرتين ورفت شفتاه لهذا العرض المادي المغري بالنسبة لرجل بسيط في مثل حالته حيث قال وهو يبتلع ريقه بشره واضح:
ـ حسناً!!.. حسناً..!! وأنا موافق على هذا العرض من الآن.. وسوف آتي إليكم غداً بأربعة أشخاص آخرين من (جماعتي) ليعملوا معي لديكم في هذه الحراسات كما طلبتم.
حينئذ ضحك الأستاذ (عبد الرحمن الحوذي) مستحسناً ما اتسم به (حمود) من ظرف وطرافة في حركاته وتصرفاته العفوية ثم قال:
ـ لا تستعجل يا (حمود)..!!.. لا تستعجل. نحن باقون معكم هنا خمس سنوات وليست خمسة أيام ومالا نستطيع فعله غدا نستطيع فعله بعد غد أو الأسبوع القادم إن شاء الله..!!.
وأراد (حمود) أن ينصرف لولا أنه تذكر في اللحظات الأخيرة أن عليه واجب استضافة (الحوذي) و(الهيري) وجميع عمال الشركة كما تقتضيه العادات والتقاليد البدوية المعروفة بالكرم والجود والسخاء حيث قال:
ـ لكن.. يا جماعة أنتم ضيوفنا و(الله يحيِّيكم) على العشاء هذه الليلة عندنا!!
وابتسم (الحوذي) وهو يتلفت عن يمينه وشماله ثم قال:
ـ نحن كلنا ـ يا حمود ـ ضيوف لديك بأعدادنا التي تفوق مئة شخص؟!.. لا.. لا.. هذا كثير!!.
ولم يكن من (الحوذي) و(الهيري) في نهاية الأمر إلا أن اعتذرا لـ (حمود) عن عدم قبول هذه الدعوة حاليا شاكرين له كرمه وسخاءه ولطفه ووعداه بأن يلبيا هذه الدعوة مستقبلا عندما تستقر الأمور وينتهي عمال الشركة من نصب الخيام وبناء المساكن وتنزيل المعدات والمؤن في موقع العمل.
وعاد (حمود) أدراجه إلى منازل عشيرته (الجواعين) حيث رأى في طريقه شخصين يعتليان الجبل الذي كان قد انحدر من قمته قبل ساعتين مضتا عرف أنهما (منصور البو) و(ملحان الورطة) اللذان كانا يراقبان عن بعد باستخدام (الدربيل) منظر الشركة ومعداتها وآلياتها وعمالها المنتشرين في كل اتجاه فأومأ لهما بيديه ومضى في طريقه حتى توارى عن نظريهما.
وفي مساء تلك الليلة كانت (شبة النار) في بيت (عجلان) فاجتمع (الجواعين) لديه حيث انصبت أحاديثهم ومسامرتهم على الشركة وعمالها وأهدافها في المنطقة واحتدم الحوار والنقاش بين الحاضرين من مؤيد ومعارض حيث قال الشيخ (محسن):
ـ يا (جماعة الخير).. الحكومة (أبخص) وأدرى بمصلحتها ومصلحتنا جميعاً. وهذا الطريق الجديد على الأقل يريحنا ويريح سياراتنا من الجبال والأودية التي تعترض طريقنا بين كل حين وآخر وتجعلنا نقطع مسافات طويلة وشاقة للوصول إلى الأسواق والدوائر الحكومية المجاورة.
هذا غير ما نعانيه من مشقة هذا الطريق غير (المسفلت) حين نقصد (المدينة) و(مكة) في موسم الحج من كل عام.
وأبدى (ملحان الورطة) تبرمه واستياءه من الوضع الذي تشهده المنطقة إثر نزول الشركة على أرضها البكر حين قال:
ـ والله (هالخواجات) يُخِّوفون يا (جماعة).. حلوا في أرضنا وانتشروا فيها مثل الجراد يأكلون الأخضر واليابس، يهدون الجبال ويقطعون الأشجار ويشردون إبلنا وأغنامنا من المراعي وموارد المياه.!!
ونبذ (منصور البو) فنجان القهوة الذي كان يرتشفه جانبا ثم قال بامتعاض:
ـ لا.. ليس هذا فحسب، وإنما أتوا أيضا على بعض أملاكنا المأثورة في المنطقة، فالطريق الجديد يخترق (وادي الضواري) من ضفتيه وأنا رأيت اليوم ـ أنا وملحان ـ حين كنا (نمد) (الدربيل) أن علامات الطريق التي يضعها عمال الشركة تمر ببئر (المرحوم والدي) الواقعة في الناحية الغربية من الوادي ولا يمكن أن أسكت عن هذا الأمر مالم أطلب تعويضا من الدولة بذلك.
كان (متعب الفطين) أثناء ذلك كله مشغولاً بين الجالسين بتدوير موجات (الراديو) لعله يتمكن من التقاط موجة (إذاعة الرياض) فربما عثر من خلالها على نبأ يتعلق بـ (سفلتة طريق الشمال) الجديد.
أما (ابن ريحانة) فقد نأى بعينيه عن السماء إلى وجوه الحاضرين قائلاً بصوت موغل في التأمل:
ـ إذن.. إذن صدقت رؤياك ـ والله ـ يا (عجلان)!!
وأحجم الحاضرون عن الكلام لما قاله (ابن ريحانة) وظلت عيونهم شاخصة إليه لحظات لم تدم طويلا حيث سأله (ملحان) بتهكم غير مستغرب منه:
ـ ما فهمنا شيئا مما تريد قوله يا (ابن ريحانة)!!
وحك (ابن ريحانة) مقدمة رأسه الأصلع من تحت (شماغه) ثم مضى يقول:
ـ أقصد أن ما رواه (عجلان) لنا عن قصة التهام ثعبان (ريع الدرب الأسود) لسلوقيه (نبهان) في تلك الليلة كان حلما ولم يكن واقعاً.
فجحظت عينا (عجلان) غضباً والتمعتا ببريق فضي قدح في وجهه الهرم الرمادي شرارة لشباب انطفأت وضاءته منذ زمن بعيد.
وضج المجلس بصخب فوضوي بين ضحكات خافتة وهمسات مستنكرة ونظرات ساخرة مستفزة.
وفي محاولة لاستعادة وقار المجلس ورزانته من جديد أضاف (ابن ريحانة) على الفور قائلاً:
ـ مهلاً..!! مهلاً يا (جماعة)..!!.. لم أكن اقصد أن (عجلان) كاذب، ولكنني أقصد أنه متوهم للحقيقة فمن يتوهمون الحقيقة ـ أحياناً ـ غير أولئك الذين يدعونها.
يعني ـ ببساطة ـ أن (عجلان) كان نائما تلك الليلة فرأى ثعباناً أسود.. أليس كذلك؟!!
فهز الجالسون رؤوسهم في حين أضاف (ابن ريحانة) قائلاً:
ـ هذه رؤيا حكاها لي أكثر من شخص من أهل المنطقة خلال أزمنة متفرقة سابقة ولم تكن مقصورة على (عجلان) وحده.
وتفسير هذه الرؤيا هو (طريق الشمال) الذي ترون الشركة مشغولة حاليا بتنفيذه وسفلتته.

(7)
ها هو (حمود الجوعان) يتردد بسيارته (الجيب) بين (وادي الضواري) وسوق (شمالات) طوال أيام الأسبوع الماضي حاملاً معه كل يوم قطيعاً من أغنامه وبعضاً من إبله لبيعها بالجملة بعد أن عزم على ترك البداوة ومتاعبها والعمل حارسا ليليا مرفها لدى الشركة بمرتب شهري وبدلات رآها مجزية بالنسبة لرجل في مثل حالته، ووضعه الاجتماعي البسيط.
ويبدو أن فكرة الهجرة (المؤقتة) هذه من البادية إلى الشركة قد استهوت بعضا من أبناء قبيلته والقبائل الأخرى المجاورة لها فحذوا حذوه حيث استقبلت الشركة أثناء ذلك وخلال الثلاثة أيام الأولى من إعلانها طلبات توظيف تفوق عشرين طلباً كان من بينها طلب لـ (مطيع الذراع) وآخر لـ(ملحان الورطة) في حين فضل بقية أفراد عشيرة (الجواعين) البقاء على بداوتهم وعزلتهم وعدم الاندماج في مجتمع يرون أنه غريب عنهم في تركيبته ونظامه ونمط حياته وعاداته وتقاليده.
وفي اليوم الأخير من وقوف (حمود) بأغنامه في السوق رأى رجالاً يشاركونه خوض معركة السوق الحامية بين بيع وشراء وآخرين يجأرون بأصواتهم (للتحريج) على بضائعهم المتكدسة على جنبات الطريق وأرصفته وهياكل السيارات بشكل لم يسبق له أن رآه.
قال في نفسه وهو يهمهم بضحكته الساذجة المعهودة:
ـ مساكين..!!.. كلكم تريدون أن تكونوا موظفين لدى الشركة..!!.. تبيعون ولا تشترون وتَتَوظَّفون ولا تُوظِّفون..!!
وعلى الجهة الأخرى من السوق رأى نساء جميلات يتجولن بين المحلات التجارية يساومن الملابس والعطورات وأدوات التجميل.
كان يود أن يقترب منهن، أن يحادثهن، أن يمازحهن، أن يغازلهن، ويزداد فتنة وجنوناً وهياجاً شيطانيا حين يرى إحداهن وقد انحسر كم ثوبها عن ذراع بض ناعم أثناء تقليبها للأقمشة المعروضة على واجهات المحلات أو تلك التي تتلاعب نسمات الشمال العابثة بـ(برقعها) لتكشف عما تحته من ثغر رماني يكتنف بَرَداً ربيعيا دافئاً.
كان يود أن يشتري لـ (ضحى) فستاناً حريرياً أو زجاجة عطر نسائي، أو خاتما كعادته حين يقصد السوق في كل شهر، كان بوده أن يفعل هذا كله وهو يتجول بين مرافق السوق وقد نسى أو (تناسى) سيارته المتوقفة بما عليها من أغنام جاء ليبيعها قبل نهاية النهار.
لقد كان بائساً هذه المرة، تعيسا كئيباً ينظر في وجوه المارة من حوله وهو يشيعهم بابتسامات جريحة كمريض يحتضر على فراش الموت.
ورأى في دكان العطارة المقابل له بعد رصيف الطريق الرئيسي للسوق إحداهن وكأنها ليست بغريبة عنه، كان بينه وبينها بضع عشرات من الأمتار يتخللها أناس يدخلون ويخرجون بشكل عشوائي غير منظم.
كانت تسترق النظر إليه بعين واحدة ونصف وجه ينزوي نصفه الآخر خلف أحد أعمدة المحل الطينية بطريقة توحي بحذر مريب.
لم يأبه كثيرا بالأمر في أوله لكن ما أثار تطفله وفضوله هو نصف ذلك الوجه ذي العين الواحدة الذي لم يستطع استكمال رؤيته على الرغم من تغييره لزوايا النظر إليه عدة مرات: يمينا، شمالاً، أمام، خلف.. لا فائدة!!
لقد أحس وكأن ذلك (النصف الوجهي) يتدلى عليه بخيط من السماء عبر شق ضيق ذي اتجاه واحد شُقَّ في سقف غرفة مظلمة.
وتقدم (حمود) يخف الوطء في اتجاه ذلك (النصف الوجهي) الذي لازال يراوغه بين ظهور باهت وانزواء غامض، ويزيد غموضه وتبعثر ملامحه قطعة من قماش حريري تؤرجحها لفحات الهواء، ونفر من الناس الداخلين والخارجين من المحل يحجبه عن مجال الرؤية لثوان تطول وتقصر أحياناً.
وسمع وهو على مقربة من باب المحل ـ أو كما يبدو له ـ همساً خافتاً يتسلل إلى سمعه من فتحة مواربة على يمينه داخل المحل غير مطلة على الشارع:
- (ضحى)..!!.. (ضحى)..!!
وهنا ثبت في مكانه واقفا بطول قامته مندهشاً كمن ضل طريقه عند مفترق الطرق، فهو لا يدري على ماذا يركز بحواسه..؟.. على ذلك (النصف الوجهي) الذي يتراءى له من وراء العمود الطيني؟ أم على هذا الصوت الهامس الأجش الذي يخاتل سمعه كذئب جائع يهادن فريسته بين خوف منها ورجاء لها؟
وسرعان ما قطع صاحب المحل على (حمود) دهشته وانبهاره حين سأله:
ـ خير إن شاء الله يا أخ!!.. (فيه شيء)؟!
ولم يجبه (حمود) على سؤاله حيث مضى بالتلفت في زوايا المحل ذات اليمين وذات الشمال، والطوفان من وراء العمود الطيني حتى كاد يلج تلك الفتحة المواربة لولا أنه وجدها كوة غير نافذة لا تتسع لأكثر من شخص واحد ولا يوجد فيها سوى بعض الأقمشة المخزونة والزائدة عن بضاعة المحل المعروضة للزبائن.
حينها غادر المحل غير مبال في الوقت الذي كان صاحبه ينظر إليه نظرات مستهجنة لم يعرها (حمود) اهتماماً معتبراً.
وأخذ وهو في طريقه لسيارته يستعيد بذاكرته ذلك (النصف الوجهي) الذي يسترق إليه النظر من وراء العمود، ويحجبه عن استكماله لرؤيته أولئك الداخلون والخارجون من المحل وتلك القطعة الحريرية من القماش التي تتلاعب بها تيارات الهواء وذلك الصوت الهامس الذي لازالت آثار دبيبه منقوشة في سمعه كآثار دبيب النمل على أرضية (قاع ساق) الطينية اللينة، فلعله يستطيع استحضار ملامحه او استكمالها لكن دون جدوى..!!
واستخرج من جيبه سيجارة فأشعلها على عجل ثم قال وهو يهمهم بضحكته الباكية السمجة:
ـ (ضحى)..!! لا.. لا.. (ضحى) لا يمكن أن تأتي إلى الأسواق أبداً!!
.. سامحيني يا (ضحى) فلن اشتري لك فستاناً ولا عطرا ولا خاتما هذه المرة!!.. اشتريها أنت بنفسك، أو فلتبعثي من يشتريها لك غيري!!
ووجد لدى رجوعه لسيارته كثيرا من سيارات الشحن المتوقفة هنا وهناك دون ترتيب ولا تنظيم وبما عليها من إبل وغنم وعلى مسافات قريبة جداً من بعضها بحيث لا يتسع المجال لعبور المشاة والجوالين ومرتادي السوق فيما بينها لأكثر من شخص واحد أو اثنين.
ويسود جو السوق الجلبة والضوضاء والصخب الناجم عن زمجرة (المُحرِّجين) على بضائعهم واختلاطها بقرع منبهات السيارات ورغاء الإبل وثغاء الأغنام، مع تصاعد غبار رقيق تثيره أرجل المارة وأدخنة السجائر وروائح الأطعمة والمشروبات الساخنة التي يعدها سائقو السيارات المتوقفة لأنفسهم على (الدوافير) أو (البوتاجازات) الغازية الصغيرة.
والتقى (مطيع الذراع) و(ملحان الورطة) في خضم السوق ومضوا يتجاذبون أطراف الحديث فيما بينهم.
قال (ملحان) وهو يغمز بإحدى عينيه خفية لـ (حمود):
ـ (مطيع) مستعجل يريد أن يبيع كل شيء!!
فقال (حمود) بخبث:
ـ لكن.. أنا أراهنه من (ذبيحة) إذا عرف ماذا سوف يشتغل لدى الشركة؟
فانتفض (مطيع) لهذا الرهان العارض المفاجئ وزم شفتيه وتقلصت عضلات وجهه حتى ضاق ما بين حاجبيه ثم قال وهو متردد بين قبول الرهان ورفضه:
ـ ماذا..؟.. ماذا أشتغل؟
وفكر قليلاً ثم قال بطريقة لا تخلو من الريبة والشك:
ـ سأقول لك ولكني أريد شاهداً على الرهان غير (ملحان).
فضحك (حمود) و(ملحان) ثم ناديا لرجل من السوق على مقربة منهم جميعاً وأخبروه بما يريدون ليكون شاهداً حاضرا على رهانهم حيث قال (مطيع):
ـ أعمل (حارس ليل).
فضحك (ملحان) وشاركه (حمود) بضحكة كاد يستلقي لها على ظهره حتى بدت آخر نواجذه المسودة.
وحين أفاق منها قال بنبرة مستفزة:
ـ (حارس ليل)؟!.. أنت تحرس الليل يا (مطيع)؟ أم تعمل حارساً ليلياً تحرس الشركة؟..لا.لا. خطأ.. هذا خطأ!!
فزمجر (مطيع) غاضباً وأرعد وأزبد حين شعر بخسارته للرهان بينما انصرف الشاهد وتركهم خلفه يتجادلون وهو يرفع بصره للسماء ويقول بأسف:
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله!!
وحين أزف غروب الشمس انفض السوق وافترق مرتادوه وخمدت أصوات الباعة والمتجولين.
كانت (شبة النار) هذه الليلة في بيت (عجلان) حيث اجتمع القوم بعد صلاة المغرب يتسامرون كعادتهم ويحتسون حول نارهم فناجين القهوة والشاي التي يطيب لهم احتساؤها بعد عناء يوم شاق قضاه معظمهم في فلوات (وادي الضواري) بين الإبل والغنم وموارد الماء. حينئذ قال الشيخ (محسن):
- نريد أن نرحل يا (جماعة) عن منزلنا هذا فالشركة مزعجة وأغنامنا وإبلنا تنفر وتجفل كثيراً من (مراحها)(*) ومباركها في الليل كلما سمعت (تراكتورات) الشركة وحفاراتها المدوية.
ولم يبد أحد من الجالسين اعتراضاً مبدئياً على ما قاله الشيخ (محسن) باستثناء (ابن ريحانة) الذي حك مقدمة رأسه الأصلع، ثم قال وهو يحملق في السماء:
- هذا وقت طلوع نجم (الهقعة) يا شيخ (محسن).
ثم التفت يمينه ويساره للحاضرين وأضاف قائلاً:
- يستحسن أن نؤخر الرحيل لعشرة أيام حتى يغيب هذا النجم.
فالجو حار ـ كما ترون ـ والسموم حارقة خاصة في النهار مما يزيد المشقة علينا.
وهبت عاصفة ترابية شمالية خفيفة رافقتها لفحة سموم جافة أثارت قلق الإبل في مباركها حول البيوت، ونفور الأغنام في حظائرها المتخذة من أغصان الشجر، وبعض أكياس الشعير الفارغة.
وبعد لحظات سمع عواء خافت يتسلل من الجهة الشمالية للوادي ويتناغم إلى حد الاندماج مع صوت عواء الريح في أطناب البيوت وأغصان الشجر مما جعل كلاب (الحي) تجس نبض هذا العواء بحساسيتها المفرطة وترفع نباحها على نحو لا تطمئن له أذن من يسمعه.
وغمغم (حمود) من تحت (شماغه) الذي لفه حول فكيه وفمه وأنفه اتقاء ذرات الغبار المتطايرة ودون أن يتنبه إليه أي من الحاضرين قائلاً:
ـ إيه..!! ياذئب (قاع ساق).. عواؤك أعرفه كما هو لم يتغير..!! تعوي قبل رحيل القوم وستعوي كثيراً بعد رحيلهم!!. كان وقت العشاء قد دخل حين هدأت العاصفة فرفع (عثمان الحنبلي) صوته بالأذان ودلف الحاضرون للمسجد. وبعد فراغهم من أداء الصلاة عادوا إلى بيت (عجلان) لاستئناف المسامرة وتناول طعام العشاء كما اعتادوا عليه.
وهنا لمح (منصور البو) للحاضرين بضرورة الاستعداد للرحيل وتجهيز السيارات آخر الأسبوع القادم لتحميل (بيوت الشعر) و(الخيام) والأمتعة وبعض المواشي غير القادرة على السير للمكان الجديد المقترح للنزول، ألا وهو أعلى (وادي الضواري) وعلى مسافة لا تقل عن خمسة عشر (كيلومتراً) من الشركة.
ومن وراء (القاطع) الذي يفصل مجلس الرجال عن حرم البيت كانت (ضحى) وصاحبتها (حشمة) تسترقان السمع، وتتناوبان على مراقبة الطعام على النار كلما احتدم النقاش والجدل بين الجالسين المتحلقين حول نارهم وخاصة عندما تنخفض أصواتهم وتتحول إلى (وشوشات) وهمسات لدى تطرقهم لقصص النساء والزواج.
كانت هذه المرة نوبة (ضحى) في استراق السمع حين سمعت (متعب الفطين) يسأل (حموداً) و(ملحان) و(امطيعاً) أمام الحاضرين عن أسعار الغنم والإبل والأعلاف. حينها أشعل (حمود) سيجارته ثم قال:
ـ والله... أسعار الغنم وسط بين الرخص والغلاء، أما العلف فاسأل عنه غيري لأنني لن أعلف بعد اليوم.
وكذلك كانت إجابة (ملحان) و(مطيع) اللذين لم يزيدا شيئا على ما قاله (حمود) سوى أن كلا منهما يفكر في استبقاء عدد قليل جداً من غنمه وإبله ودائع لدى الشيخ (محسن) بخلاف (حمود) الذي باع غنمه وإبله كلها بدليل قوله بأنه (لن يعلف بعد اليوم).
ولطمت (ضحى) وجهها بكفها لطمة خفيفة كانت كافية لتنبيه (حشمة) إليها عند قدر الطعام، حيث خفت الأخيرة مشيتها في اتجاه (القاطع) الذي تنزوي بمحاذاته (ضحى) قائلة بصوت خافت جداً:
ـ ما بك يا (ضحى)؟.. خير إن شاء الله!!
فأجابتها وهي تنأى بنحرها عن (القاطع) قائلة بقلق:
ـ يا (خسارة) يا (حمود)!! ضيعت كل شيء!!

(8)
في صباح هذا اليوم احتشد ما يقارب العشرين شخصاً من أبناء البادية أمام البوابة الرئيسية للشركة في مقرها الواقع في الجهة الغربية السفلى من (وادي الضواري) لمقابلة المسئولين واستكمال إجراءات قبولهم على وظائف (الحراسة الليلية) للشركة ومرافقها مصطحبين معهم بعض المستندات والإثباتات الشخصية اللازمة لتسجيلهم.
كان الجو معتدلاً بين البرودة والحرارة، والشمس لا تزال في ساعات شروقها الأولى.
وكانت الشركة تبدو للناظر إليها ـ وللوهلة الأولى بما فيها وبمرافقها وعمالها ـ وكأنها خلية نحل متكاملة، منظمة ومرتبة وضع كل شيء فيها في مكانه الصحيح بعنايه .
يتبـــــــــــــــــع








التوقيع :
آخر تعديل ابوعبدالمجيد1 يوم 05-17-2010 في 12:48 PM.

رد مع اقتباس
 
قديم 05-17-2010, 12:14 PM   رقم المشاركة : 3
مسـتــشار الـمـوقـع
 
الصورة الرمزية ابوعبدالمجيد1





الحالة
ابوعبدالمجيد1 غير متواجد حالياً

ابوعبدالمجيد1 is on a distinguished road

كبار الشخصيات وسام الاداره 


 

افتراضي رد: اقدام تنتعل السراب

يتبــــــــــــــــــــع ما قبله
وحين فتحت البوابة الرئيسية للشركة لاستقبال طالبي التوظيف تدافع الناس خلالها ومشوا متفرقين بشكل فوضوي ملفت للنظر مسافة (ثلاثمائة متر) للداخل حتى توقفوا أمام منصة واسعة مربعة الشكل مصنوعة ومبنية بعناية فائقة من خشب مصقول لامع بلون بني وترتفع قرابة (نصف متر) عن الأرض، ولها قواعد حديدية مغروسة في الأرض.
وينتظم على كل ضلع من هذه المنصة درج خشبي صغير يمتد بثبات من سطحها حتى يرتكز على الأرض باستواء.
وثمة منظر آخر يروق لعيون هؤلاء البدو البسطاء أن تراه ألا وهو تلك الكراسي الخشبية ذات المساند والأذرع الأسفنجية المكسوة بقماش رقيق مزخرف بألوان جميلة هادئة من درجات اللون البني.
وأمام هذه الكراسي المنتظمة إلى بعضها بشكل صفوف عرضية وعلى مسافة (ثلاثة أمتار) من الصف الأول فيها توجد طاولة خشبية عريضة بأربع قوائم غطي سطحها بقماش بني لامع تتدلى نهاياته حتى تكاد تلامس أرضية المنصة.
وعلى الحافة الأمامية منها وضعت أربع مقالم فضية وأوراق بيضاء وأختام خشبية مطلية بلون ذهبي و(كرتونات) صغيرة يبدو أنها تحتوي بداخلها على أحبار أو (اسْطَمْبات).
وخلف هذه الطاولة وضعت أربعة كراسي خشبية أكثر فخامة بقماشها وتصميمها من تلك الموجودة أمامها فصلت فيما بينها مسافات متساوية.
وأمام هذه المنصة الخشبية ـ بكاملها وعلى مسافة تقارب العشرة أمتار منها ـ توجد ثلاث غرف متراصة مبنية على طراز (البيوت الجاهزة) لها جدران من خشب (البليود) المصقول وأبواب ونوافذ من (الألمنيوم) وأسقف من (القرميد الأحمر) تحيط به شتلات صغيرة من أشجار الزينة لاتزال في طور نموها الأول.
كان (الحراس المنتظرون) للشركة أثناء ذلك كله يوزعون نظراتهم وابتساماتهم الحالمة بشغف وإعجاب بما يرونه من مرافق الشركة الفخمة ومناظرها المرتبة المنظمة منتظرين مقابلة المدير ومساعديه وخروجهم من تلك الغرف الموجودة بينهم وبين المنصة.
وهنا كثرت الوشوشات والهمسات والإشارات بين الحراس الجدد المنتظرين للشركة حيث بدأوا يتجمعون فيما بينهم على انفراد يشيرون بأصابعهم وأيديهم ورؤوسهم إلى مرافق الشركة الفخمة التي لم يسبق لعيونهم أن رأت أجمل منها في نظافتها ونظامها وترتيبها.
كيف لا وهم (بدو الشمال) الذين لا يعرفون من معالم الرفاهية والرقي ـ في صحرائهم الجرداء ـ أكثر من (سوق شمالات) ولا يعرفون من المساكن سوى (بيوت الشعر) وكهوف (وادي الضواري) ومغاراته وأشجاره؟!
وهناك في الساحة المركزية لموقع الشركة مبنى كبير ذو نوافذ زجاجية وبوابة كبيرة ترتكز على حافتها العليا (لافتة) كتبت عليها حروف سميكة باللغتين (الانجليزية) و (الكورية).
ويتعاقب على ارتياد هذا المبنى عدد من العمال (الكوريين) الداخلين والخارجين وهم ينظفون أفواههم وأيديهم بمحارم ومناديل ورقية بما يوحي أنه مبنى المطعم الرئيسي للشركة.
وعلى يمين المطعم بمسافة تبعد عنه حوالى (ثمانين متراً) يوجد مبنى آخر أكبر من سابقه مساحة وفخامة محاط بسياج حديدي شائك وتنتظم بمحاذاته وعلى طوله (شتلات) ذات ألوان زاهية من أشجار الزينة، وله أكثر من بوابة يبدو أنه سكن العمال بدليل وجود بعض العمال في غرفهم التي شرعوا نوافذها وأبوابها للتهوية بملابسهم الداخلية القصيرة بعد أن خلعوا عن ظهورهم الملابس الرسمية للشركة لدى انتهاء بعضهم من فترات المناوبة في العمل.
وعلى يسار المطعم وعلى مسافة تبعد عنه بحوالى (مئة متر) مساحة كبيرة مربعة من الأرض مزروعة ومغطاة بكاملها بنبات (الثيِّل) القصير، ويوجد على إحدى حوافها عدد من الغرف المتجاورة الصغيرة لتبديل الملابس وعدد من الكراسي البلاستيكية والطاولات والأعمدة الكهربائية ذات الشمعات الكبيرة لتكون هذه المساحة ملعبا أو ناديا رياضيا يمارس فيه العمال خلال أوقات فراغهم بعض أنواع الرياضات المحببة لديهم مثل الكرة و(الجمباز) و(الكاراتيه).
ووراء هذا الملعب شاحنات وسيارات نقل صغيرة وتراكتورات عادية ومجنزرة ورافعات شوكية تتوقف داخل وخارج مبنى كبير مسقوف بـ (الزنك) و(الفايبر) وله بوابات كبيرة يتم فتحها وإغلاقها آليا، يبدو من مظهر هذا المبنى أنه مبنى (التشغيل والصيانة).
وبجوار البوابة الرئيسية مباشرة وعلى مسافة تقارب (ثلاثمائة متر) من مبنى الإدارة يوجد مكتب مكون من غرفتين صغيرتين متجاورتين تقعان على تلة ترتفع بعض الشيء عن بقية معالم الشركة ومرافقها تتوقف أمامها عدد من سيارات الشركة، وفيهما عمال يرتدون الزي الرسمي للشركة ويحملون بأيديهم هراوات وأجهزة (لاسلكية) بما لا يدع مجالا للشك فى أنهم (فرقة أمن الشركة).
وعلى أقصى اليمين للداخل من البوابة الرئيسية وبعد سكن العمال بمسافة لا تقل عن (كيلومتر) واحد توجد (مكائن) ضخمة تعمل بالديزل لتوليد الطاقة الكهربائية تمتد منها (كابلات) لتزويد جميع مرافق الشركة بهذه الخدمة.
هذا بالإضافة إلى وجود (مستوصف طبي) صغير على الشارع الرئيسي للشركة تتوقف أمام مبناه المكون من غرفتين متجاورتين سيارة إسعاف دمغ على أحد أبوابها علامة (الهلال الأحمر) وإلى جانب هذا المستوصف غرفة أخرى منفصلة يدل منظرها على أنها (صالون حلاقة).
ويحيط بهذه المعالم كلها هناك على مرمى النظر سياج حديدي شائك بارتفاع يقارب (متراً ونصف المتر) يمتد بشكل شبه دائري نصف قطره لا يقل عن (ألف وخمسمائة متر) حفرت على مقربة من أحد أركانه بئر (ارتوازية) لضخ المياه وتتوقف عندها عدد من سيارات الري ذات صهاريج كبيرة السعة.
وعلى مسافات متباعدة ومتساوية في أبعادها من هذا السياج الشبه دائري وبطوله البالغ (ثلاثة آلاف متر) توجد أربعة أبراج صغيرة للمراقبة والحراسة الليلية للشركة من الجهات الأربع وترتفع قرابة (المترين) عن مستوى هذا السياج ولها قواعد حديدية مغروسة في الأرض وجدران خشبية وأسقف من (الفايبر) وأبواب ونوافذ زجاجية.
كان ذلك كله يحدث على مرأى ومسمع من (الحراس المنتظرين) حين خرج المدير ومساعدوه إليهم من تلك الغرف الموجودة قبالتهم وهم يتأبطون بعض الأوراق والملفات.
وقبيل جلوسهم رفع الأستاذ (عبد الرحمن الحوذي) مدير المشروع يده ملوحاً بالتحية تبعه في ذلك مساعدوه وأشار إليهم بطريقة مهذبة للجلوس إلى تلك الكراسي المنتظمة أمامه ثم جلس في حين اتخذ كل من مساعديه الثلاثة مقاعدهم إلى يساره.
ولم يكلف بعض الحراس المنتظرين أنفسهم عناء الصعود إلى المنصة عبر الدرج وإنما تقافزوا بشكل مثير للضحك من الأرض إلى سطح المنصة مباشرة.
ولما اتخذ كل منهم مقعده تحدث (الحوذي) للجميع بصوت مسموع عن الشركة وأهدافها في المنطقة ونظامها (الداخلي) بشكل عام، ثم تطرق بحديثه لنظام التوظيف والتعاقد وبنوده وشروطه مركزاً على هذه النقاط بشكل خاص.
وبعد هذه المقدمة الموجزة عن الشركة وأهدافها التفت إلى يساره وعرف بمساعديه للموجودين أمامه قائلا بلطف متكلف:
ـ هذا مساعدي المهندس (مصطفى الهيري) مصري الجنسية وإلى يساره الأستاذ (حسن أرسلان) سعودي الجنسية وهو سكرتير مكتب إدارة المشروع.
ثم توقف لثوان معدودة أشار بعدها إلى رجل كهل خفيف الصلع ممتلئ الجسم، يرتدي (بذلة) إفرنجية بربطة عنق ذات لون زاه قائلاً:
ـ وآخر واحد إلى يساري هو المستر (شين) مدير فرقة الأمن في الشركة وهو (كوري) الجنسية.
ثم ابتسم نصف ابتسامة وهو يتوقف عند التعريف بالمستر (شين) لبضع ثوان حيث قال بعدها مستدركاً:
ـ لكن.. لا تخافوا..!! فالمستر (شين) يجيد التفاهم باللغة العربية على نحو لا بأس به على الرغم من كون لغته الأصلية هي (الكورية) كما هو معروف بالإضافة إلى إجادته البالغة للغة (الانجليزية) تحدثاً وكتابة.
وابتسم (الحوذي) هذه المرة ابتسامة أكثر اتساعاً حين قال بروح مرحة:
ـ وللمعلومية أيضا فإن المستر (شين) يجيد فن (الكونغ فو) و(الكاراتيه).
وبرزت أسنان المستر (شين) بطريقة هي أقرب للتكشير منها للضحك لكن ما لطفها على نحو مضحك هو تلك الهمهمات التي أطلقها كل من (الهيري) و(أرسلان) الجالسين بين المستر (شين) و(الحوذي) بينما ظلت كلمتا (الكونغ فو) و(الكاراتيه) كلاماً غير واضح الدلالة بالنسبة للحراس المنتظرين.
ومع أن كلام (الحوذي) لم يكن كله واضحاً لبعضهم إلا أنه حاول إيصال المعلومات المطلوبة لهؤلاء البدو البسطاء بأسلوب لا بأس به وبلغة مبسطة استطاع من خلالها أن ينزل لمستواهم الاجتماعي البسيط وأن يخاطبهم على قدر إدراكهم الحسي والعقلي وذلك لما له من خبرة طويلة في العمل في مجال المواصلات تمتد نحو عشرين عاما أدار خلالها عدة مشاريع لشق الطرق وسفلتتها مما كان له الأثر الإيجابي في صقل مهارته الإدارية في التعامل مع البدو الذين تخترق مشاريع الطرق ديارهم.
واختتم (الحوذي) لقاءه بالحراس المنتظرين للشركة بالضغط على زر كهربائي متصل بأحد الأسلاك حيث أقبل إليه بعد لحظات عامل (كوري) يرتدي (بالطو) أبيض، ويعتمر قبعة بيضاء مضلعة استدار للحوذي من خلفه وهمس الأخير في أذنه ثم انصرف.
وبعد دقائق عاد ذلك العامل بعربة صغيرة يجرها وراءه برفقة عامل آخر حتى توقف بها على المنصة ثم كشف عن محتواها (القصدير) الرقيق المغطي لها. وكانت هذه العربة محملة بأنواع من عصائر الفواكه المتنوعة التي تم توزيعها على الموجودين.
وبدا على وجوه (الحراس المنتظرين) وهم يتناولون العصائر بأمزجة متفائلة علامات الرضا والارتياح للشركة والعاملين فيها مما شجعهم على الرغبة في اكتشاف المزيد من المعلومات الجديدة والمفاجآت السارة في مجتمعهم الجديد.
لمح الأستاذ (عبد الرحمن الحوذي) ذلك كله على وجوههم الشفافة ومن خلال ابتساماتهم المتفائلة ونظراتهم والتفاتاتهم الوديعة فأيقن أنه نجح في استئناس هذه الفئة المتوحشة من الناس بما يخدم المصلحة العامة التي جاء من أجلها إلى هذه الصحراء القاحلة.
وبعد دقائق معدودة من انتهاء (حفلة العصير) استأذن (الحوذي) من الموجودين بالانصراف وترك وراءه مساعديه الذين تولوا عملية تسجيل الحراس الجدد بعد أن اصطفوا على شكل صفوف طويلة منظمة أمام طاولة التسجيل حيث قام المساعدون بجرد أسمائهم وبياناتهم الشخصية في كشف واحد.
وعند انتهاء عملية التسجيل أعلن المهندس (مصطفى الهيري) للموجودين بصوت مسموع بأن عليهم مراجعة إدارة الشركة بعد ثلاثة أيام مصطحبين معهم بعض الصور الشخصية لمنحهم هوية منسوبي الشركة وتخصيص سكن لهم في المبنى الرئيسي لسكن العمال ومن ثم مراجعة المستر (شين) مدير مكتب الأمن ليتم تسليم كل حارس جديد عهدته من الأجهزة والأدوات الأمنية وملابس الزى الرسمي للشركة وتوقيع تعهد بذلك.

(9)
كانت عشيرة الجواعين برئاسة الشيخ (محسن) قد اتخذت منازلها الجديدة في الجهة الشرقية العليا من (وادي الضواري) حين عاد إليها كل من (حمود) و(ملحان) و(مطيع) ليقضوا بين أقاربهم يوما أو يومين قبل انضمامهم الفعلى لطاقم العمل في الشركة.
كان القمر بدراً هذه الليلة وكانت (شبة النار) في بيت الشيخ (محسن) حيث اجتمع القوم كعادتهم بعد صلاة المغرب مباشرة. وكان (متعب الفطين) قد اتخذ ركنا جانبيا من المجلس يقلب موجات (الراديو) باحثاً عن (إذاعة الرياض) وهو يلصق هذا الجهاز بإحدى أذنيه ويخفض صوته إلى الحد الأدنى.
كان يبدو منزعجا للتشويش الذي قد يكون ناجما عن ضعف (البطارية) على الرغم من كونه قد رفع (الهوائي) إلى الحد الأعلى في اتجاه رأسي.
أما (ابن ريحانة) فقد اتخذ مكانه المتطرف المعهود من المجلس على مقربة من مدخله المكشوف بزاوية مائلة على السماء بحيث يتسنى له أثناء جلوسه بين الحاضرين مراقبة النجوم والكواكب والأبراج باستمرار.
قال الشيخ (محسن) وهو يخلل شعر لحيته المغبر المهلهل بأصابعه النحيلة المتغضنة وهو ينظر لـ (حمود) و(ملحان) و(مطيع):
ـ (هاه).. يا (جماعة)!!.. كيف وجدتم الشركة؟
فأجابه (ملحان) باقتضاب بأن الأمور على ما يرام بينما راح (مطيع) يسرد على الحاضرين ما رآه في الشركة بثرثرة ممجوجة وأسلوب ممل وبجمل غير مترابطة.
فهو أحيانا يتحدث عن مباني الشركة الفخمة ومرة يتحدث عن الكرسي الذي جلس إليه حتى كاد ينام لجماله، ونعومة ملمس قماشه وأحياناً أخرى يحكي للحاضرين كيف أن طعم العصير الذي احتساه اليوم لازالت نكهته في فمه، وعلى لسانه لجودته ولذة طعمه حتى أن (أبا مصلح) رشقه بإحدى شتائمه الهامسة:
ـ عسى الشركة ومبانيها (تنهد) فوق رأسك يا (مطيع)!!.. بعت الغنم وجلست تشرب العصير على الكرسي.!!أما حمود فقد لزم الصمت ولم يعلق بشيء البتة. وهنا قال (ملحان) ببجاحة وخبث متعمد وكأنه يقصد استثارة حفيظة (منصور البو):
ـ حتى ماء الغدران الكدر و (البئار القديمة) ذات المياه الآسنة لم نعد بحاجتها، فالشركة لديها (بئر ارتوازية) تضخ مياهاً عذبة حلوة بغزارة تكفي الشركة و(أهل الشمال) كلهم لو أرادوا الاستقاء منها. وانتفض (منصور) وانتفخت أوداجه غضباً ثم قال بحنق واضح:
ـ بسيطة..!! بسيطة..!! لن أسكت لهذه الشركة الخسيسة التي مدت علامات الطريق لتتخطى بئر والدي..!!.. والله لن أسكت..!!.. سأقدم شكوى اعتراض للحكومة بذلك.
وضحك (حمود) و(ملحان) باستخفاف واضح للوضع الذي كان ولا يزال عليه حال (منصور) من الغيظ وتوتر الأعصاب ومنظره وهو يومئ برأسه ويعض رؤوس أنامله جزعاً مما زاده توتراً وعصبية أفقدته السيطرة على نفسه.
لكن الشيخ (محسن) سرعان ما استدرك الموقف قبل أن يتخذ الأمر مجرى يخرج المجلس من وقاره واحترامه حيث قال وهو يرمق (حموداً) و(ملحان) بنظرة عتاب ولوم:
ـ اتركوا عنا بعض الكلام الذي لا داعي له يا (جماعة)!!
ثم التفت إلى (منصور) قائلاً برفق وأناة وحكمة:
ـ افعل ما تشاء يا (منصور) ودعك من الناس فأنت أدرى بنفسك من غيرك.
وانصرف القوم للمسجد بعد أن أذن (عثمان الحنبلي) حيث أدوا صلاة العشاء.
ولدى فراغهم منها عادوا إلى بيت الشيخ (محسن) لاستئناف مسامرتهم باستثناء (حمود) الذي انسل من بينهم واستقل سيارته ليقوم بجولة يتنزه خلالها بين جنبات (وادي الضواري) في هذه الليلة المقمرة.
ربما أراد هذه الليلة أن يصطاد بعض الأرانب والطيور وربما فكر في أن يتوجه إلى (وضاح) ليطربه بعزفه الشجي على ربابته لكنه - بالتأكيد - لم يفكر أبدا في البحث عن ذئب (قاع ساق). وسمع وهو يقترب من الحافة الجنوبية السفلى للقاع عواء مبحوحاً تشوبه غصة مريرة تنبيء عن ألم مبرح.
وبعد دقائق رأى خيوطا ضوئية تتبعثر هناك في اتجاهات متفرقة زادتها أرضية (القاع) ولمعان القمر توهجا أيقن في نفسه أنها سيارة لأحد صيادي الليل ومقتنصي حيواناته ودوابه فصرف نظره عنها ولم يعرها اهتماماً.
لكنه انزعج حين سمع بعد لحظات دوي رصاصة بندقية (مجلجلاً) فيما حوله من جبال وصخور لابد أن تكون صادرة من صاحب تلك السيارة التي تجوب (القاع) من كافة جوانبه.
وانقطع الدوي وذلك العواء المرير وساد صمت يوحي بعلاقة يتصارع طرفاها على حياة أو موت.
... هل قتل ذئب (قاع ساق)؟ هل أصيب بجرح جديد؟..
... هل بلغت به (حماقة الذئاب) حداً جعله يستعطف الآخرين بعوائه المرير لإنقاذه من جرح غائر في خاصرته ظنا منه بأنهم سيكونون كـ (حمود) يصرفون عنه وعن جرائه فوهات بنادقهم ويشيعونه بنظرات الأسى والأسف، ويغضون أبصارهم عن جرحه الغائر حتى لا يخدشوا كبرياءه، أو يشعروه بنقص في وحشيته، وضراوته المكبلة بقيود الجرح والألم؟!
أو ربما ظن كذلك أنهم سيديرون له ظهورهم بعد أن يتركوا له ولجرائه ما في حوزتهم من لحم وخبز ولبن.
واستطاع (حمود) ـ أثناء قيادته لسيارته في الاتجاه المعاكس لموقع الحادث المخيف ـ أن يقاوم حزنه ويغالب قطرات حارقة من دموعه احمرت لها حدقتا عينيه.
واكتفى ببؤسه وحزنه حين تلثم بأطراف (شماغه) وكأنه لا يريد أن يرى أو يسمع شيئاً.
وفي الليلة التالية كانت (شبة النار) في بيت (منصور البو) حيث اجتمع (الجواعين) كعادتهم بعد صلاة المغرب مباشرة باستثناء (متعب الفطين) الذي جاء متأخرا على غير عادته هذه المرة.
كان (متعب) مبتهجاً جذلاً وهو يدخل المجلس بجهاز (الراديو) الذي يمسك مقبضه بإحدى يديه.
وبدون أن يسأله أحد من الحاضرين عن جذله وفرحه قال مخاطبا (منصوراً):
ـ أعطني (البشارة) يا منصور!! وستسمع ما يسرك!!
فقال (منصور) دون تردد:
ـ أبشر يا متعب!!
فقال متعب:
سمعت خبراً الليلة من (إذاعة الرياض) مفادة أن (الملك خالداً) حريص كل الحرص على أن تصل خدمات المواصلات والطرق لجميع مناطق المملكة العربية السعودية ليرتاح المواطنون وتتوفر لهم سهولة التنقل بين المدن والقرى.
وسكت (متعب) لحظات وكأنه يريد شد انتباه الحاضرين وشحذ فضولهم ثم قال:
ـ ليس هذا فحسب..!! وإنما تضمن الخبر أيضا كلاما عن مشروع طريق الشمال، وتعويضات من قبل الدولة للمواطنين من أصحاب الأملاك ممن تمر مشاريع الطرق المعبدة بممتلكاتهم من أراضى ومزارع وبيوت وما شابه ذلك.
واهتز (منصور) طربا لهذا الخبر المفاجئ السار، ثم قال باعتداد وتعجرف:
ـ أرأيتم يا (جماعة)؟!... ألم أقل لكم إنني لن أسكت أبداً؟!!.. هذه شكواي وصلت للدولة دون أن أقدم (معروضا) ولا (حاجة). واستغل (أبو مصلح) ضجة المجلس حيث قذف (منصوراً) بإحدى شتائمه الخافتة المعتادة:
ـ بئر والدك ميتة (ما فيها خير).. التعويض (أحسن لك) منها يا مسكين!!
وفي اليوم التالى تحرك (حمود) بسيارته برفقة (ملحان) و(مطيع) قاصدين الشركة وقد جلبوا معهم بعض ما يحتاجونه من ملابس وأحذية وغتر وأدوات شخصية لازمة.
وهناك أخذوا دورهم في الصفوف المنتظمة أمام مكتب إدارة الشركة الذي قام بإنهاء إجراءات قبولهم في الحراسة الليلية إذ استلم كل حارس بطاقة شخصية فيها اسمه وجنسيته وصورته ووظيفته التي يمارسها في الشركة بالإضافة إلى تسليمهم (كروتاً) خاصة بالسكن فيها رقم المبنى والغرفة.
بعد ذلك انتقل الحراس الجدد نحو مكتب الأمن حيث استقبلهم هناك المستر (شين) وطلب منهم أن ينظموا أنفسهم على شكل صفوف ليدخلوا إليه واحدا واحداً بحيث يتمكن من التعرف على الملامح الشخصية لكل واحد منهم، ويقارن بينها وبين الصورة الموجودة في الهوية الشخصية ومن ثم تسليمه عهدة الحراسة والتوقيع على استلامها بكشف خاص أعده لهذا الغرض.
وبدا على وجه المستر (شين) الامتعاض حين رأى بعضا من الحراس الجدد يقلبون أجهزة اللاسلكي بين أيديهم بما يوحي بأنهم لا يعرفون هذه الأجهزة، أو التعامل مع كيفية استخدامها. وهنا أطل من مكتبه واقفا على عتبته ثم أعلن بلغة عربية ركيكة:
ـ أظن الملابس (ما فيها مشكلة).. تعرفون ترتدونها وكذلك تعرفون استخدام الهراوة.
أما جهاز اللاسلكي (رح) يكون لنا لقاء في المنصة الموجودة أمام مكتب الإدارة بعد (الأصر) (عشان) اشرح لكم كيف تستخدمونه. وكانت فرصة مناسبة للحراس الجدد في أن ينصرفوا إلى مبنى السكن ليتعرف كل منهم على مكانه هناك إلى أن يحين موعدهم مع المستر (شين) بعد العصر كما قال لهم.
وهناك وجد الحراس أن سكنهم مخصص للحراس (السعوديين)وهو عبارة عن صالة كبيرة ذات سقف واحد لكنها مقسمة من الداخل بحواجز خشبية يرتفع الواحد منها عن أرضية الصالة قرابة المترين ولكل منها باب مستقل ونافذة واحدة وتحتوي كل وحدة سكنية منها على سرير ودولاب خشبيين.
أما دورات المياه فقد كانت عبارة عن مبنى صغير يقع خارج الصالة وعلى مقربة منها.
ومع أن الوحدات السكنية لا سقوف لها فهي مكشوفة من أعلى مباشرة على السقف الكبير الذي يغطي الصالة بكاملها مما يوحي باحتمال حدوث جلبة وضوضاء لتعالى أصوات بعض الحراس وضجيجهم أثناء دخولهم وخروجهم ليتحول هذا الضجيج إلى أصداء تصطدم في السقف الكبير الموحد للصالة لترتد مضاعفة إلى ما تحتها من وحدات إلا أنها ـ عموما ـ تبدو مريحة وفاخرة بالنسبة لبدو بسطاء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.
وبدا الحراس يتخبطون على غير هدى وهم يتجولون بين الوحدات المرقمة بأرقام (انجليزية) وعربية حيث لم يتمكن بعضهم من معرفة وحدته لولا (عناد السهو) أحد أبناء القبائل المجاورة للجواعين وأحد أفراد الحراس الجدد النادرين لإجادته القراءة والكتابة بشكل جيد إذ قام (عناد) متطوعا بتعريف كل حارس على وحدته السكنية مستخدماً (كروت) السكن الموجودة مع كل منهم والموضح فيها اسم الشخص ورقم وحدته. وقد جاءت وحدات (ملحان) و(حمود) و(مطيع) غير متجاورة إذ فصلت بينها وحدات يسكنها آخرون من الحراس الجدد.
لاحظ (حمود) ذلك وهو يتجول مع زملائه في الصالة ثم قال في نفسه:
ـ أحسن..!!.. ما من وراء (مطيع) و(ملحان) إلا الإزعاج وصداع الرأس.
وسر المستر (شين) حين بلغه ما قام به (عناد السهو) من تنظيم الحراس وتعريف كل منهم بوحدته مما جعله يحظى عنده بحظوة خاصة.
كان وقت الظهر قد دخل حين أعلن الأستاذ (حسن أرسلان) سكرتير مكتب إدارة المشروع بـ(الميكروفون) أن على الحراس الجدد التواجد في مطعم الشركة بعد نصف ساعة من هذا الإعلان لإقامة حفل غداء لمنسوبي المشروع الجدد على شرف الأستاذ (عبد الرحمن الحوذي) مدير الإدارة. وبدا الحراس غير منظمين لدى مسيرهم متوجهين للمطعم لولا أن (السهو) استدرك الوضع فقام بتنظيمهم أثناء سيرهم على نحو مقبول حتى دخولهم المطعم واتخاذ كل منهم مقعده متوزعين على طاولات الطعام المرتبة الأنيقة والمجهزة بعدة أصناف من المأكولات والمشروبات اللذيذة.
كان (الحوذي) ومساعدوه يتخذون طاولة منفردة جلسوا إليها حيث نهض واقفا ورحب بالحراس الجدد ودعاهم بلطف مبالغ فيه إلى تناول الطعام.
ولقي كثير من الحراس صعوبة بالغة في كيفية استخدام الملاعق والسكاكين والشوكات أثناء الأكل.
وكان (ملحان) و(حمود) و(مطيع) يجلسون إلى طاولة واحدة مشتركة حيث غمز (ملحان) لـ(حمود) بعينه خفية مشيرا إلى (مطيع) الذي ظل يطارد بشوكته وسكينه قطعة لحم من الكباب المشوي في طبقه.
وتوقع الاثنان أن تسفر محاولة (مطيع) هذه عن موقف محرج فلزما الصمت بخبث وخساسة وتركاه دون أن ينبهاه لشيء. وما هي إلا لحظات حتى انزلقت السكين من يده ساقطة على بلاط المطعم محدثة رنيناً تنبه إليه الموجودون.
وكان الوقت مناسباً ـ في هذه الحالة لرفع الحرج عن الحراس ممن لا يعرفون كيفية استخدام أدوات الأكل ـ حيث قال الأستاذ (الحوذي) مباشرة وبصوت مسموع:
ـ يا (جماعة)! خذوا راحتكم!.. كلوا بأيديكم واتركوا عنكم الملاعق والسكاكين والشوكات.
ولما فرغ الجميع من حفل الغداء كان الوقت قد أوشك على موعدهم مع المستر (شين) في المنصة حيث اجتمعوا هناك قبيل الموعد بثلث ساعة. ولدى حضور المستر (شين) اتخذ مقعده من المنصة وكان في صحبته رجل آخر جلس إلى جانبه من بني جلدته يبدو على مظهره الأناقة، والهدوء اللذان لا يقلان عن أناقة المستر (شين) نفسه ومظهره إلا أنه يبدو عليه حداثة سنة مقارنة بالمستر (شين) الكهل الذي تجاوز الخمسين من عمره.
قال المستر (شين) بعد أن حَيَّى الحراس الجدد وهو يشير لذلك الرجل الجالس إلى يساره:
ـ هذا مساعدي المستر (كيم).
ثم سكت لحظات وأضاف قائلا بلطف وأناة:
ـ من تواجهه مشكلة في عمله منكم فعليه مراجعتي أو مراجعة المستر (كيم) بالنيابة عني فهو يجيد العربية على نحو لا بأس به... يعني (كُوِّيس).
وران الصمت لحظات ثم قال مازحاً بتكشيرة هي أقرب إلى البكاء من الضحك:
ـ لكن.. طبعاً. أنا أفضل منه في التحدث بـ (العربية) وإن كان هو أفضل مني في فن (الكونغ فو) و(الكاراتيه).
ولم يشاركه الضحك سوى المستر (كيم) الذي اكتفى بإطلاق ابتسامة صغيرة ليست بحجم مزحته العفوية (الباردة) المرتجلة بينما ظل الحراس الجدد واجمين يتلفتون إلى بعضهم دون أن يفهموا شيئا مما أراده المستر (شين) في مزحته تلك.
حينئذ طلب المستر (شين) من كل حارس إخراج جهاز اللاسلكي الذي في حوزته ليعطيهم شرحا وافيا عن كيفية استخدامه حيث تكلم إلى المستر (كيم) بلغة أجنبية غير مفهومة كان يبدو أنها تعني أن يقوم المستر (كيم) بالشرح نيابة عنه.
ونهض المستر (كيم) شارحاً للحراس كيفية استخدام هذه الأجهزة قرابة ساعتين. ولدى فراغه اختتم المستر (شين) هذه التعليمات والتدريبات الأمنية بتحذيرات لا ينبغي الوقوع فيها. فقد أبلغهم بوجوب الحرص والتنبه أثناء المناوبات الليلية لئلا يتسلل البدو ولصوص الصحراء لسرقة ممتلكات الشركة أو مقتنياتها من معدات وآليات وألا يبرح كل حارس مناوبته حتى يستلم مكانه الحارس الذي يليه في المناوبة.
كما نبه أيضا إلى ضرورة التقيد بتعليمات الإدارة فيما يخص السكن واستخدام مرافق الشركة الأخرى. فالتدخين يمنع منعاً باتا داخل الوحدات السكنية وعلى المدخنين أن يخرجوا خارجها إذا رغبوا في التدخين.
كما أنه ممنوع على الحارس ترك وحدته السكنية مفتوحة لدى مغادرته لها لمناوبته أو لأي شأن يخصه أو ترك الباب الرئيسي للمبنى السكني مفتوحا في آخر ساعات الليل حتى لا تتسلل الكلاب أو الحيوانات البرية الأخرى عبر فتحات السياج الخارجي للشركة لتدخل إلى المبنى وتعبث بمحتوياته.
هذا غير ما تتصف به بعض هذه الحيوانات من وحشية وشراسة قد تودي بحياة البعض. وحتى يعطي هذا الموضوع أهمية كبيرة حكى المستر (شين) لهم من تجربته السابقة في أحد المشاريع ما حصل لأحد الحراس من حادث مؤسف حين ترك باب مسكنه مفتوحا آخر الليل وهو نائم حيث كان هذا الحارس المسكين لقمة سائغة لأحد الضباع الجائعة في نهاية الأمر.
وأخيراً نادى المستر (شين):
ـ المستر (سهو)..!!أين المستر (سهو)؟
فنهض (عناد السهو) من بين الجالسين وطلب منه المستر (شين) أن يأتي إليه في مقدمة المنصة حيث شكره أمام الحاضرين من زملائه على تنظيمه للحراس الجدد في السكن والمطعم ومنحه علامة لاصقة من القماش الأحمر يعلقها بأعلى كمه الأيسر لدى ارتدائه الزى الرسمي للشركة ليكون بذلك (عريفاً) للحراس (السعوديين) في السكن وفي جميع مرافق الشركة الأخرى، فهم تحت مسئوليته في انصرافهم واستلامهم للمناوبات وحضورهم وغيابهم وما سوى ذلك.

(10)
كان المستر (كيم) مشغولاً عصر هذا اليوم بممارسة فن (الكونغ فو) في النادي الرياضي حين قرر (حمود الجوعان) و(ملحان الورطة) أن يلتقياه للموافقة على تبادلهما مواقع أبراج الحراسة خلال مناوبة هذه الليلة بحيث يستلم (ملحان) مناوبته في البرج الجنوبي الشرقي بينما يستلم (حمود) بدوره مناوبته في البرج الشمالي الشرقي. واندهش الاثنان لدى رؤيتهما المستر (كيم) وهو يمارس هذا الفن الرياضي العجيب الذي لم يشاهداه من قبل بخفة ورشاقة مثيرة للإعجاب والتأمل.
فهو أحياناً يوجه بيديه لكمات سريعة وخاطفة في الهواء تجد العين صعوبة في ملاحظة حدود امتدادها وارتدادها ومرة يقفز قرابة متر ونصف في الهواء ليرتكز على الأرض برجل واحدة. وأحيانا يتشقلب على ظهره ليقف معتدلاً بطول قامته بثبات وتماسك وكأن جسمه كله عبارة عن قطعة واحدة من اللحم.
لم يعرهما اهتماماً وهما يقفان على مقربة منه وربما تظاهر بذلك لهما لانشغاله عنهما بممارسة هذا التدريب حتى انتهائه منه. ولزم الاثنان الصمت الذي راق لهما أثناءه متابعة المستر (كيم) وهو منهمك في ممارسته لهذه الرياضة العجيبة.
ويبدو أن (حموداً) كان أكثر انفعالاً وانجذاباً لما يراه من (ملحان) الذي لم يكن بتلك الدرجة من التأثر التي وصلت بـ (حمود) إلى حد جعله ينسى ما حوله ليركز بجميع حواسه على المستر (كيم) وحده.
كان (حمود) و(ملحان) أثناء ذلك كله يقفان متجاورين تفصل بينهما مساحة صغيرة تقارب خطوتين أو ثلاثاً ولا تتسع لأكثر من شخص واحد فيما لو وقف بينهما. حينئذ رأى المستر (كيم) أن من المناسب أن ينهي خاتمة تدريباته بقفزة طائرة مع عدة شقلبات هوائية يستقر بعدها على قدميه وبطول قامته في تلك المساحة الصغيرة الفاصلة بين (حمود) و(ملحان) دون توقع أو تنبه أي منهما للتوقيت الذي اختاره المستر(كيم) لتنفيذ هذه الحركة بالضبط.
وفجأة لاحظاه يتشقلب في الهواء بسرعة ورشاقة فائقة في اتجاههما حتى ظنا أنه سيصطدم بهما مما نتج عنه اضطراب وتزحزح في وقفتهما في الوقت نفسه الذي استقر خلاله المستر (كيم) فيما بينهما على قدميه وبطول قامته.
وضحك المستر (كيم) منتشياً بنجاحه في هذا الاستعراض (البهلواني) بينما جاءت ضحكات (حمود) و(ملحان) متأخرة بعد استيعابهما للموقف ونتيجته المذهلة.
حينها قال (المستر كيم) متعجرفاً:
ـ يبدو أنني أخفتكما!!
فقال (ملحان) بلهجة لم يفهمها المستر (كيم) سوى (حمود) وحده:
ـ (تعقب وتخسا)!!
وأطلق حمود ضحكته الخافتة المعتادة ثم استل من جيبه سيجارة راح يدخنها بصمت.
ولأن (ملحان) أراد أن يخفي تلك الشتيمة التي لم يفهمها المستر (كيم) وإن كانت ضحكة (حمود) قد وشت إليه بشيء من انفضاحها فقد استدرك قائلاً:
ـ جئنا إليك لكي نتبادل مواقعنا يا مستر (كيم).
فقال المستر (كيم) ببرود:
ـ حسنا..!! هذا لا يمنع!!
وفي تلك الليلة نفسها كان كل من (ملحان) و(حمود) قد استلم موقعه الجديد في الحراسة الليلية شأنهما في ذلك شأن بقية الحراس الذين استلموا مناوباتهم على مرافق الشركة المختلفة.
لا يدري (حمود) حقاً لماذا راوده شعور الرغبة في استلام مناوبته الليلية في البرج الشمالي الشرقي بالذات؟ هل لأن اتجاه هذا الموقع من الشركة هو أنسب الاتجاهات التي ستفضي به مباشرة على طول امتداد النظر إلى (قاع ساق)؟
.. هل لأنه الاتجاه الصحيح لرحيل (ضحى) وقومها؟.. هل لأنه الاتجاه الذي يعتقد بأنه سوف يأتيه بشيء ـ حتى وإن كان يسيراً ـ من صوت (وضاح) أو نغمات ربابته حين تهب الرياح الشرقية؟
أم لأنه ذلك الاتجاه الموبوء بخيبات الأمل والأحلام وترهات الضياع ودهاليز العزلة والوحشة ومكامن الخوف والهلع من أجل امرأة يرغب الزواج منها، أو حيوان متوحش يسعى لقتله بدافع (تهمة) اتهمه بها أناس أكثر وحشية وفظاظة أو سعلاة كـ(هلالة) ذلك الغول الليلي الذي تصفه خيالات الرجال وخزعبلاتهم لنسائهم المنهكات في بيوتهن تحت أروقة الدجى كلما جن الليل ليخفن بها أطفالهن للكف عن البكاء والصراخ، والاستسلام للنوم مبكراً ليفيقوا بعدها في صباح اليوم التالى وقد امتلأت فرشهم وملابسهم تبولاً وفاحت منها روائح كريهة.
كان القمر هذه الليلة غير مكتمل الظهور تحجب نوره ندف من السحب المتفرقة في الجو حين أشعل (حمود) سيجارته في برج الحراسة الليلية.
سمع ـ أو هكذا كما يبدو له ـ عواء خافتاً من جهة (قاع ساق) تزداد وتنخفض ذبذباته مع تقلب اتجاه الرياح وتغيير سرعتها، فأرهف له سمعه وران عليه الصمت الذي لم يرافقه سوى صوت دوران عقرب الثواني في ساعته (الفسفورية):
ـ تك.. تك.. تك.. تك..!!
وصوت عواء الريح حين تلفح موجاتها سقف برج الحراسة الذي يقبع داخله وذلك الطنين الذي تصدره أسلاك السياج الرئيسي للشركة كلما هبت الرياح.
وضحك ضحكته الخافتة المعهودة ثم قال:
ـ ستكون أكثر وحشية هذه الليلة أيها الذئب!
كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة مساء حين هدأت الرياح فشاهد من على برج الحراسة خيالاً يتجه نحوه على مسافة تقارب (المئة متر).
تأكد بعد تدقيق الملاحظة أنه خيال لإنسان وليس لأي شيء آخر فلزم الصمت حتى يتحقق من هيئته وملامحه.
وحين اقترب ذلك الخيال عرف حمود أنه صديقه الراعي (وضاح) لكن اكتسحت جوانحه غمامة حزن أمطرته بقشعريرة ساخنة حين رأى رأسه أصلع على بصيص ضوء القمر وقد جاء حافيا دون أن ينتعل حذاء ممسكاً ربابته بإحدى يديه.
حينئذ أطل (حمود) برأسه من نافذة البرج قائلاً برعشة محمومة:
ـ ما بك..؟.. ما بك يا (وضاح)؟
ـ أنا (وضاح) يا (حمود)... ألم تعرفني؟!
ـ أعرفك.. لكن.. لكن لماذا تغيرت هيئتك؟ أين شعرك؟
ـ أنا جائع يا (حمود) أريد طعاماً (الله يخليك)!!
وسكت (حمود) وهو يفرك عينيه غير مصدق بما يراه ويسمعه ولما أحس (وضاح) بتأخره في الرد قال بنبرة موجعة:
ـ الله..!! الله..!! يا (حمود) نسيت صديقك بهذه السرعة..؟!
... هذه ربابتي معي.. أنت تعرفها جيداً، وربما تعرفها أكثر مني.. خذها وتفحصها فهي دليل المعرفة بيننا.
ومد (حمود) يده بحذر لا يدري ما سببه حتى تناول (الربابة) ثم قام بتفحصها في الوقت نفسه الذي ظل خلاله (وضاح) واقفاً بمحاذاة السياج منتظراً نتيجة هذا التعرف إلى هويته. حين تفحص (حمود) الربابة وجدها ـ فعلاً ـ ربابة (وضاح)..
... إنها ربابة متقنة الصنع مصنوعة من (جلد الذئب) ولها قوس صنع وتره من (سبيب الخيل) الناعم.
ـ حسناً... حسناً يا (وضاح) ليس عندي طعام في هذا المكان، ولكن انتظرني دقائق، سأذهب للمطعم وآتي إليك ببعض الطعام. قالها (حمود) وهو ينزل مع عتبات برج الحراسة.
ثم أضاف قائلاً وهو يخفض صوته:
ـ لكن.. اجلس يا (وضاح).. لا تظل واقفاً هكذا، اجلس بمحاذاة السياج كي لا يراك أحد الحراس أو عمال الشركة حتى آتيك.
ومضى (حمود) يغذ السير في اتجاه المطعم، كان خائفاً من شيء ولكنه لا يدري ما هو؟
وكانت مشيته مثيرة للريبة والشكوك خاصة في هذا الوقت المتأخر من الليل. فالساعة تشير إلى الثانية عشرة بعد منتصف الليل والمطعم على وشك أن يغلق أبوابه.
ومما زاد الموقف حرجاً أنه لم يتذكر أنه ترك مناوبته وغادر موقعها إلا بعد أن بلغ منتصف المسافة. وهذا فيه مخالفة لأوامر الشركة ونظامها الداخلي مما يجعله عرضة لعقاب المستر (شين) أو نائبه المستر (كيم) فيما لو رأياه على هذا الحال.
لقد أدرك (حمود) في حينه أنه قد ارتكب خطأ لكنه لا يريد حين وصل إلى منتصف الطريق أن يرتكب خطأ ثانياً بعودته إلى (وضاح) بلا طعام، فأصر على مواصلة طريقه حتى ولج المطعم من بابه الخلفي المخصص لدخول العاملين فقط.
ولحسن حظ (حمود) فإنه لم يجد سوى عاملين يتهيئآن لإغلاق المطعم وكان البقية قد انصرفوا، كشر أحدهما بوجهه لدخوله المفاجئ عليهما، والآخر بدا على وجهه بعض الامتعاض.
فلم يكن منه إلا أن أشار إليهما ببعض الكلمات العربية التي فهما منها أنه يريد طعاماً حيث قام أحدهما بإعطائه كيساً بلاستيكياً فيه بعض اللحم والخبز فانصرف من عندهما متوجهاً إلى وضاح عند برج الحراسة.
كاد (حمود) أن يجن حين لم يجد (وضاحاً) في مكانه، صعد برج الحراسة وأطل في كل اتجاه.. ليس هناك أي علامة أو أثر يدل على وجوده.
كاد أن ينادي بأعلى صوته:
ـ يا (وضاح)..!!.. وضاح..!! أين أنت؟
لكنه تذكر لحظتها أنه أحمق فيما لو فعل ذلك فسينتبه عمال الشركة ورجال الأمن لصوته، سيعرفون أنه ترك مكان مناوبته وربما يتوصل التحقيق في الأمر إلى أن يقوم العاملان اللذان رأياه قبل قليل بإخبار مدير الأمن أو نائبه بوجوده في المطعم وقت مناوبته ولذلك لزم الصمت على مضض وقلق.
كان يجول جنبات برج الحراسة الصغير الذي لا تزيد مساحته عن (مترين في مترين) بعبث يحاول من خلاله تفريغ ما في نفسه من شحنة المفاجأة والدهشة والحيرة. كان يحدق في جهاز اللاسلكي الملقى على الطاولة الصغيرة أمامه.
هل فكر في أن يستخدمه في الإبلاغ عما حدث؟ ستكون أيضا النتيجة ليست في صالحه مما جعله يصرف نظره عنه إلى أن وقعت عيناه على رؤية (الربابة) المنزوية تحت الطاولة، حيث لم يتمالك نفسه من الانقضاض عليها بلهفة وشغف كمن (ينتشل) غريقاً على آخر رمق من أنفاسه.
ـ آه.. الربابة!! الربابة!!.. إنها ربابة (وضاح)!!. إنها ربابة (وضاح) فعلاً تركها تحت الطاولة قبيل نزوله من درج البرج وتوجهه للمطعم.
وانتابته موجة الحيرة والدهشة من جديد، هل هو يحلم؟ أم أنه يعيش الواقع؟ هل الشخص الذي أتاه قبل ساعة هو فعلاً (وضاح)؟ وإن كان هو فأين ذهب؟ ولم اختفى بهذه الطريقة العجيبة الغريبة؟
هل تأخر (حمود) بمجيئه إليه؟ أم أن (وضاحاً) انصرف خشية أن يراه عمال الشركة بمحاذاة السور فيبلغوا عنه الأمن الذين سيقبضون عليه بتهمة محاولة تجاوز السياج إلى داخل الشركة، أو اتهامه بمحاولة سرقة مقتنياتها.ونظر حمود إلى عقارب ساعته ليتأكد أنه لم يترك برج الحراسة منذ خروجه منه إلى أن عاد إليه من المطعم أكثر من عشرين دقيقة.
ومع أن (حموداً) كان واثقاً من نفسه إلا أنه بدا يساوره شك حول هذه الثقة فأراد أن يهاتف (ملحان) في البرج الشمالي الغربي عبر جهاز (اللاسلكي) فيسأله بطريقة غير مباشرة وغير مثيرة للشك عن ذلك الشخص الذي ظهر له فجأة واختفى دون أن يجد له أثراً.
ولما اتصل بـ (ملحان) تحدث الاثنان في أمورهما العادية وبدا (حمود) يستدرجه بالكلام حتى قال على سبيل المزاح:
ـ انتبه يا (ملحان) من لصوص الصحراء والمتسللين وخاصة (الصلعان)!!
فضحك (ملحان) ثم قال معلقاً على هذه المزحة:
ـ إلا المستر (شين)!!
وانتهت المهاتفة بين الاثنين وألقى حمود بالجهاز جانبا وهو لا يزال في حيرة من الأمر. إذن.. لم يستفد (حمود) شيئاً من خلال مكالمته اللاسلكية مع (ملحان) الذي أراد أن يستفسر منه عن ذلك الشخص بطريقة غير مباشرة.
إن (ملحان) رجل ذكي جداً ولماح ودقيق الملاحظة فلو رأى ما رآه (حمود) لأبلغه به. ولكن (حموداً) كان أذكى منه حين نبهه إلى (الصلعان) قاصداً ذلك الشخص الأصلع الشبيه بـ (وضاح).
أما (ملحان) فقد فسر كلمة (الصلعان) من قبل (حمود) على أنه يقصد بها المستر (شين) لكونه قليل شعر الرأس إلى حد يقترب من الصلع. أي بمعنى آخر فهم (ملحان) من (حمود) أنه ينبهه لمراقبة المستر (شين) حتى لا يجد عليهما ملاحظات مخلة بواجبهما أثناء المناوبات الليلية.
من هنا حاول (حمود) أن يستعيد اتزانه وثقته بنفسه من جديد ليراجع هذا الموقف المثير للدهشة والاستغراب من أوله فتناول كوباً من الماء وأشعل سيجارته التي مضى يدخنها بانسجام.
نسي (الربابة) وصرف نظره عنها لكونه لا يشك أبداً في نسبتها لـ (وضاح) لكنه بدا يرصد بذاكرته ملامح (وضاح) وهيئته التي رآه عليها الليلة على بصيص ضوء القمر.
إنه صوت (وضاح) لولا رعشة واهنة في حباله الصوتية قد يكون سببها الجوع. أما الوجه فإن له كثيرا من صفات وجه (وضاح).. وجه أبيض مشرب بحمرة خفيفة، أنف دقيق يرتفع قليلا عند نهاية القصبة، عينان صغيرتان سوداوان حوراوان يكتنفهما من أعلى حاجبان مقوسان جميلان بنهايتين مدببتين يزيد سوادهما وسواد عينيه وضوحاً بياض بشرته وانعكاس أشعة القمر الساقطة عليها.
لكن.. لماذا كان وجهه منتفخاً كرغيف أُخِرجَ لتوه من فرن وقد كان في الأصل رقيقاً ناشفاً؟ هل لأنه حلق شعر رأسه حيث بدت ملامح وجهه أكثر بروزاً؟ أم أن ذلك لمرض أصيب به في رأسه فغير بعض صفاته وملامحه الشخصية؟
ـ أووووه..!!.. لا. لا... ليس ذلك الشخص (وضاحاً)!! ثم إن (وضاحاً) لا يعزف ربابته ولا يخرج بها عادة إلا في الليالى المقمرة عندما يكون القمر بدراً.
قالها (حمود) وهو يشعل سيجارة أخرى بعد أن انشغل عن سيجارته الأولى بالتفكير حتى تحولت بين إصبعيه إلى بروز رمادي تهالك على أرضية برج الحراسة، بعد أن كانت بالغة التوقد والتوهج.

(11)
كان المستر (شين) والمستر (كيم) يمارسان مع بعضهما رياضة (الكونغ فو) وبعض تدريبات (الكاراتيه) عصر هذا اليوم في النادي الرياضي للشركة، في حين كان (حمود) يراقبهما عن بعد من وراء الباب الزجاجي للمطعم وهو يتناول وجبة غدائه المتأخرة.
كان مندهشاً لما يراه من خفة حركتهما وبراعتهما في اتخاذ كل منهما أوضاع الدفاع والهجوم ضد خصمه. فمرة يتخذ المستر (شين) وضعاً دفاعياً ليسدد إليه المستر (كيم) ضربة مارقة كالسهم من إحدى يديه ليتفاداها المستر (شين) ببراعة فائقة.
ومرة أخرى ينقض المستر (شين) بهجمة شرسة يتفاداها المستر (كيم) بسهولة ويسر.. وهكذا!!فلم يزد (حمود) على أن قال وهو ينظف فمه من بقايا الطعام قاصداً الانصراف:
ـ ملاعين..!!.. وشياطين منزلة على الأرض هؤلاء (الخواجات)!!. ولكنه حين كان يهم بالانصراف تفاجأ بدخول المهندس (مصطفى الهيري) عليه من باب المطعم فلزم مكانه في حين اتخذ (مصطفى) مقعده من طاولة مجاورة بعد أن ألقى عليه التحية بابتسامة مؤدبة لا تخلو من المجاملة.
وقرر (حمود) أن يبقى قليلاً، ويستمر في مشاهدة المستر (شين) والمستر (كيم) حتى لا يظن (مصطفى) أنه خرج متضايقاً من دخوله المفاجئ عليه في الوقت نفسه الذي كان ينوي خلاله (حمود) الانصراف فعلاً. ولاحظ (مصطفى) أن (حموداً) منهمك في مشاهدة ذلك المنظر حيث قال بعد ازدراده لقطعة من (الكباب) المشوي:
ـ يبدو أن المنظر قد راق لك يا أخ (حمود).. أليس كذلك؟
فأجابه (حمود) وهو يلوي عنقه في اتجاهه:
ـ شيء عجيب والله يا مهندس (مصطفى)!!
فسأله (مصطفى) بأسلوب محرض على اكتشاف شيء ما:
ـ أتحب أن تمارس مثل هذه الرياضة؟
وسكت (حمود) لحظات، ثم قال وهو يكاد لا يفهم شيئاً:
ـ لكن.. لكن كيف؟
ـ بسيطة..!! الأمر بسيط.. تعال هنا!!.
حينئذ قام (حمود) واتخذ مقعداً مقابلاً لـ (مصطفى) على طاولته وهنا سأله (مصطفى):
ـ ألم تر من قبل مثل هذه الرياضة؟!
فأومأ (حمود) برأسه وهز كتفيه بطريقة تدل على النفي. لكن (مصطفى) كرر سؤاله مرة أخرى بطريقة مثيرة للفضول:
ـ ألم تسمع بـ (الكاراتيه) و(الكونغ فو)؟!
لكن (حموداً) ظل صامتاً أيضا بما يدل على أنه جاهل تماما في هذه الكلمات، بل إنه لم يتجرأ حتى على مجرد التلفظ بها أو نطقها.
وهنا مضى (مصطفى) يشرح لـ (حمود) بأسلوب سهل يتناسب مع فهمه وإدراكه الاجتماعي والثقافي البسيط لمثل هذه الأمور. قال (مصطفى) إن هذه الرياضات قتالية، اكتشفت منذ القدم للدفاع عن النفس وهي سلاح فتاك لمن يتقن استخدامه في حالتي الدفاع والهجوم.
ولاحظ (مصطفى) أثناء حديثه لمعان عيني (حمود) وكأنه يريد استحثاثه لمعرفة المزيد، حيث مضى قائلاً:
ـ يقولون إن (الصينيين) و(اليابانيين) وشعوب (شرق آسيا) هم مكتشفوها!!.. لكن الحقيقة...
وسكت (مصطفى) لحظات وكأنه يريد ترتيب أفكاره ثم قال:
- لكن... الحقيقة أن (المصريين) القدامى هم مكتشفو هذه الرياضة القتالية الخطيرة في زمن (الفراعنة).. ألم تسمع بـ (الفراعنة) يا (حمود)؟
وصمت حمود لحظات وهو يحك رأسه ثم قال:
ـ أسمع بـ (فرعون) حين لحق بـ (موسى) عليه السلام فأغرقه الله في البحر.
وضحك مصطفى لهذه المعلومة البسيطة مما شجعه على المضي في مواصلة حديثه:
ـ حسناً..! حسناً.. على زمن الفرعون (أحمس) غزا (الهكسوس) وهم قوم عتاة من (الشام) مصر فألحق بهم (أحمس) هزائم وخسائر فادحة.. إنهم قوم مهزومون خرجوا من (مصر) يجرون أذيال الخيبة لكن هزيمتهم هذه علمتهم أشياء كثيرة عن خصومهم (المصريين)، عن أساليبهم في الحرب والقتال، عن مهارتهم في صنع النبال والخناجر وأدوات الحرب الأخرى... عن الكونغ فو والكاراتيه، وفن التحطيب بالعصي وغير ذلك. يا لهم من قوم يستفيدون حتى من الهزيمة!!
وبدت ¬على وجه (مصطفى) مرارة مؤسفة وهو يقول العبارة الأخيرة ثم أضاف:
ـ لقد نقل (الهكسوس) من (المصريين) فنون القتال اليدوي معهم إلى الشام بعد هزيمتهم ومن (الشام) انتقل بدوره إلى (شرق آسيا).
ولما تحقق لدى مصطفى أن (حموداً) لم يزل يجهل كثيراً مما يقوله له أراد أن يختصر الموضوع ليوصله إلى ذهنه من أقرب الطرق وأسرعها إليه بعيدا عن التوسع حيث قال:
ـ المهم.. بإمكانك أن تتعلم وتتدرب مع المستر (شين) والمستر (كيم) على فنون هذه الرياضة إذا كنت ترغب أنت أو غيرك من الحراس الجدد فلا بأس.
فأجابه (حمود) بشغف وهو يبتلع ريقه كطفل شاهد قطعة (شوكولاته):
ـ نعم..!.. نعم.. أريد أن أتعلم ذلك.
وهنا انصرف (مصطفى) من عند (حمود) الذي ظل يراقب المستر (شين) والمستر (كيم) من وراء الباب الزجاجي للمطعم ويفكر فيما قاله (مصطفى).
في تلك الليلة لم يستطع (حمود) النوم، لم تكن لديه مناوبة فقد انتهت فترة مناوبته الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل حين استلمها زميله الذي يليه في كشف المناوبات. ونظام الشركة ـ كما هو معروف ـ يقر أن المناوبات الليلية مدتها اثنتا عشرة ساعة، وعلى فترتين طوال الليل أولاهما تبدأ الساعة السادسة والنصف مساء وتنتهي الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل وثانيتهما تبدأ من حيث تنتهي الأولى وتنتهي الساعة السادسة والنصف صباحاً.
كانت الساعة تشير إلى الواحدة والنصف بعد منتصف الليل حيث شعر (حمود) برغبته في التدخين فخرج من السكن وانزوى بمحاذاة أحد جدرانه الخارجية، حيث أشعل سيجارته وراح يدخنها بانسجام تام.
ولما فرغ منها وهم بالانصراف إلى فراشه رأى ثلاثة عمال (كوريين) واقفين أمام سكنهم الخاص بهم يتحدثون ويضحكون فيما بينهم فتوجه إليهم. كان متضايقاً يريد أن يتحدث إلى أي شخص يجده هذه الليلة.
شعر عندها بحرج لم يشهده من قبل.. إنه في طريقه إلى أناس لا يعرفهم ولا يعرفونه، فكيف يدخل بينهم بهذه الطريقة دون أن ينادوه أو يأذنوا له، كاد يتراجع لدى بلوغه منتصف المسافة، إلا أن أحد الثلاثة تمكن في الوقت المناسب من رفع الحرج عنه بشكل عفوي حين رفع له يده، وحياه بلهجة عربية ركيكة:
ـ (مرهبا..!! (تفدل)..!!
ولم يصدق (حمود) نفسه حين سمع هذه العبارة حيث بدا أكثر اتزاناً في شخصيته وهيئته من ذي قبل فمشى فى اتجاههم حتى وقف بينهم.
سألوه عن اسمه فأخبرهم وعرفوه بدورهم بأسمائهم: (وان) و(بين) و(هان) ومضوا يتحدثون فيما بينهم ويشاركونه في الكلام حتى بدا عليه الارتياح والاندماج.
كان المستر (وان) أكثر من صاحبيه بساطة، رجل نحيف في حدود الثلاثين من عمره، كثير التبسم والتعليق والنكات مما جعل (حموداً) أكثر ارتياحاً له من صاحبيه الآخرين خاصة وأنه هو ذاته الشخص الذي ناداه من بينهم حين رأوه مقبلاً نحوهم.
عرف (حمود) أن المستر (وان) هو الموظف المكلف ببريد الشركة ومتابعته، يخرج في مهمته هذه يومين أو ثلاثة ليتابع توصيل واستلام البريد الخاص بالشركة وعمالها بين (الرياض) و(تبوك) و(ضبا) ثم يعود للشركة ليستريح أيام الأسبوع الباقية. أما بالنسبة للمستر (بين) والمستر (هان) فإن الأول يعمل ميكانيكياً، والثاني يعمل كهربائياً، وكلاهما في ورشة الصيانة والتشغيل الخاصة بالشركة.
ظن (حمود) بسذاجته المعهودة أنهم سيطلبون منه التعرف إلى مهنته في الشركة كما عرفوه بأنفسهم ومهنهم. لكن المستر (وان) سبقه في التعرف إلى ذلك حيث قال بنوع من التأكيد:
ـ طبعاً..!.. أنت حارس أمن.. نعم. نعم. ليس لدينا عمال (سعوديون) في الشركة باستثناء من يعملون في الحراسات الأمنية الليلية.
حينئذ علق المستر (بين) مازحاً:
ـ لأنهم أهل المنطقة ويعرفون لصوصها أكثر منا.
وضحك الجميع باستثناء المستر (هان) الذي بدا على وجهه السأم والإجهاد، إذ قال وهو يتثاءب:
ـ يكفي أن يكون مدير المشروع وسكرتيره (سعوديين).
ولم يمكث (حمود) لديهم طويلاً، حيث استأذنهم بالانصراف، ولكنه قبل أن ينصرف قال له المستر (وان) بلطف:
ـ كرر الزيارة يا مستر (حمود)!!.. أنا موجود هنا في الثلاثة أيام الأخيرة من كل أسبوع.
في صباح اليوم التالى كان (عناد السهو) يناقش المستر (شين) في مكتبه في بعض الأمور التي تخص الحراس الجدد مثل استلام المناوبات وكيف تم توزيعها في كشوف معينة بين المناوبين حتى تطرق (السهو) بنقاشه إلى اقتراح أن يتم الدمج بين السكنين (السعودي) و(الكوري) كي يستفيد الحراس (السعوديون) من عامل اللغة الانجليزية أثناء اختلاطهم بنظرائهم (الكوريين).
ورحب المستر (شين) بالفكرة مبدئياً إلا أنه سيؤجل عرضها على الإدارة لشهر أو شهرين ريثما تستقر الأمور ويرى إمكانية تنفيذها. وحين عاد (السهو) إلى سكن العمال (السعوديين) طلب إليهم أن يصطفوا أمام الساحة الصغيرة الموجودة بين السكن ودورات المياه وأخبرهم بأن هناك إمكانية لدمج السكن لكن هذه العملية سيتم تنفيذها على مراحل لأنه لا يمكن إجراؤها دفعة واحدة.
ولابد من مشاورة العمال (السعوديين والكوريين) من الراغبين بتغيير أو تبادل سكنهم لغرض تعلم اللغة. ولذلك فإن على الراغبين في تبادل السكن أن يسجلوا أسماءهم لدى عريف السكن بعد غد ليتم رفعها لمدير الأمن ومن ثم للإدارة.
كان (حمود) يبتسم خفية بين الصفوف الواقفة أثناء كلام (السهو) وهو يقول فيما بينه وبين نفسه:
- إيه يا مستر (وان)..!! ستعلمني (الانجليزية) وتعلمني (الكاراتيه) أيضاً.
وبعد يومين كان ثلاثة أرباع الحراس (السعوديين) قد سجلوا أَسماءَهم لدى (السهو) الذي قام بدوره بتسليمها لمستر (شين). قال المستر (شين) باسماً وهو يستعرض القائمة:
- حسنا. حسناً!! لم أكن أتوقع حقيقة يا مستر (سهو) أن يكون العدد بهذا القدر.
فقال (السهو):
- هي ليست أكثر من رغبة في أن يتعلموا كيف يتحدثون هذه اللغة حتى وإن كانوا لا يجيدون قراءتها أو كتابتها لكن... وسكت (السهو) لحظات وهو يحملق في القائمة التي يستعرضها المستر (شين) بين يديه حيث رفع المستر (شين) بصره إليه قائلاً:
ـ لكن... ماذا؟ .. هل أردت أن تقول شيئاً يا مستر (سهو)؟
فقال السهو:
ـ لكن لا أدري عن مدى موافقة العمال (الكوريين) على ذلك وهل سيكون عددهم كعدد (السعوديين) الراغبين في تبادل السكن معهم؟
ـ وأنا كذلك لا أعلم ولكن سأعلن لهم عن ذلك. ومن رغب منهم فليسجل اسمه لدي.
فقال السهو وعيناه شاخصتان للمستر (شين):
ـ ثمة أمر آخر يا مستر (شين) وهو مجرد اقتراح ليس أكثر.
ـ تفضل.!!.. تفضل يا مستر (سهو).
ـ إذا تحقق أمر دمج السكن فحبذا لو يمنع على (الكوريين) مخاطبة السعوديين باللغة الركيكة أو لهجاتها فإما أن يخاطبوهم باللغة الانجليزية الصحيحة أو بما يتماشى مع مستواهم من الاستخدامات المعروفة لهذه اللغة.. يعني (حبة.. حبة) حتى يتمكنوا من التعامل بها بشكل جيد. وإلا فلن تتحقق الاستفادة من هذا الدمج.
فقال المستر (شين) وهو يكشر بأسنانه:
ـ لا بأس مستر (سهو)!!.. سيكون لك ما أردت.
وبعد أربعة أسابيع من استقرار الأمور في الشركة حدثت سرقة قام بها مجهولون أثناء الليل لمعدات الشركة وبعض مقتنياتها من خيام وفرش وتموين في المخيم الشمالى الذي يبعد عن الإدارة بحوالي ثلاثة عشر (كيلومتراً).
ولما علم المستر (شين) بذلك أبلغ الإدارة للتحقيق في هذا الموضوع واتخاذ الإجراء اللازم. حينئذ أعلن الأستاذ (حسن أرسلان) بـ (الميكروفون) أن الأستاذ (عبد الرحمن الحوذي) مدير المشروع يرغب في أن يلتقي بالحراس (السعوديين) في المنصة أمام مكتبه حالاً.
وهنا اجتمع الحراس وحضر الأستاذ (الحوذي) ومساعدوه وتحدث للحراس عن حادثة السرقة وأوعز للمستر (شين) في أن يختار ثلاثة أشخاص من الحراس السعوديين للمناوبات الليلية على مخيم الشركة لمدة ثلاث أو أربع ليال ريثما يتم التحقيق في الأمر.
ولما انتهى الاجتماع أشار المستر (شين) لـ (عناد السهو) بأن يأتيه في مكتبه بعد ساعة ومعه كشف بأسماء الحراس المختارة التي ستستلم المناوبات الليلية على المخيم المسروق.
وبعد مضي ساعة كان (عناد) قد سلم كشف المناوبات للمستر (شين) في مكتبه كما طلب منه.
كانت القائمة تتضمن ثلاثة أشخاص أحدهم (حمود الجوعان) ومعه اثنان من قبيلة أخرى أحدهما يدعى (فايز الجلاوي) والآخر يدعى (ناصر بن جمشان).
وحين بلغ (حموداً) نبأ اختياره ضمن تلك القائمة سكت دون أن يبدي اعتراضاً على الرغم من كونه يحق له ذلك حسب نظام الشركة.
وهَمْهَمَ بضحكته المعهودة:
ـ على الأقل (نتفسح) في البر.. ما (شفناه) من زمان وكلها ثلاثة أيام ويعود المستر (وان) من (مشوار) البريد.
كان مخيم الشركة يقع ضمن المسافة التي تمثل المرحلة الأولى لتنفيذ مشروع سفلتة طريق الشمال البالغ إجمالي طوله ما يقارب (الخمسمائة كيلو متراً) أو ما يزيد عنها قليلاً.
وكان هذا المخيم عبارة عن خيمتين صغيرتين متجاورتين إحداهما جعلت لاستراحة العمال والأخرى اتخذت مخزناً يضع فيه العمال ملابسهم وفرشهم وبعض المعدات والآليات الخاصة بالمشروع مثل قطع الغيار و(المواتير) الكهربائية و(الدريلات) أو الحفارات الصغيرة.
هذا بالإضافة إلى وجود الآليات الأخرى التابعة للمخيم والتي تظل واقفة بعيدا عن المخيم على جوانب علامات ترسيم الطريق مثل (التراكتورات) والحفارات الكبيرة وناشرات (الاسمنت) بحيث يمكنها مواصلة عملها هناك صباح كل يوم حتى غروب الشمس. واتفق (حمود) مع رفيقيه (الجلاوي وابن جمشان) على تناوب الخفارات الليلية.
كانت ليلة قمراء صافية نشر قمرها ضوءه الفضي المتلألئ على سهول (وادي الضواري) وجباله وأشجاره ومخلوقاته، وكانت الريح شرقية لينة هادئة تنفث أنفاسها العذبة بأريحية تبهج الروح كعاشق يهمس بلواعج الحب والغرام لمعشوقته بعد فراق طويل كاد أن يودي بحياتهما. وهذا مما شجع (حموداً) على الرغبة في تبادل فترة مناوبته مع (ابن جمشان) بحيث يتولى (ابن جمشان) فترة أول الليل في حين يتولى (حمود) الفترة الثانية منه.
كان موقع المناوبة الذي اتفق عليه المناوبون الثلاثة هو رأس هضبة صغيرة تقع في منتصف المسافة بين المخيم وتلك الآليات المتوقفة على جوانب علامات ترسيم الطريق. كان (حمود) يشعر في داخله أنه سيواجه هذه الليلة شيئاً ما لدى استلامه لموقع المناوبة من (ابن جمشان) لكنه لا يعلم ما هو؟ كان يدخن سيجارته بصمت ومزاجية لم يألفها من قبل. سمع (وضاحاً) يعزف ربابته بلحن (سامري) مثير للشجن والحرقة والألم. وتذكر أن ربابة (وضاح) لازالت عنده في السكن تحت سريره، رآها بعينيه ليلة البارحة.
هل هذا يعني أن (وضاحاً) قد تسلل إلى السكن من بعده ليسترجعها إليه؟ أم أنه قد أتى بربابة غيرها؟
في الوقت ذاته يقع بصر (حمود) على قطيع من الإبل ترتع بهدوء في خميلة شجرية صغيرة تقع إلى يسار الهضبة التي يعتلي قمتها وعلى يمينه ـ فيما بينه وبين المخيم ـ تتقافز حيوانات صغيرة لم يستطع تحديد جنسها، يبدو أنها أرانب أو ثعالب تتلاعب بوداعة عابثة. وأمامه على مقربة من الآليات المتوقفة ذئب (قاع ساق) وجراؤه الثلاثة تتبعه من ورائه يبدو على مظهرها الهدوء والسكينة، لم تكن جائعة وإلا لملأت الجبال والأودية عواء موحشاً تقشعر له الأبدان. لكنها ربما أتت حين شمت ندى المياه التي ترشها (الوايتات) على امتداد الطريق في المرحلة الأولى من السفلتة بعد تمهيده بـ (التركتورات) ذات (المساحي) العريضة.صرف نظره عنها بعد أن تنهد بارتياح كمن حط عن ظهره حملاً ثقيلاً.
يبدو أنه شعر بالطمأنينة حين رآها حية على الأقل، وإن كان مستقبلها في الحياة يضجره، ويؤرقه أحياناً كلما تذكرها أو سمع عواءها الموحش الموجع في ذلك القاع الموغل في الظمأ والعطش والجوع. شعر بالضيق، تململ في مكانه وأراد أن يغير من وضع جلسته فاستدار بكامل جسده حتى جعل وجهه ناحية الغرب.
رأى خيالاً أسود يتراءى له من وراء إحدى الشجرات الواقعة بمحاذاة سفح الهضبة التي يعتليها. لم يكن خيالاً مكتمل الملامح، لكنه يبدو له أن فيه شيئا من رائحة (ضحى) أو هويتها المعجونة بتراب هذا المكان. حينها لم يكن منه إلا أن أسدل ذيل (شماغه) على عينيه حتى أخذته دوامة النوم التي لم يصح منها إلا على أشعة شمس الصباح.

(12)
كان مشروع سفلتة طريق الشمال قد اكتمل تقريباً بعد مضي ما يقارب خمس سنوات من العقد الذي أبرمته الشركة مع وزارة المواصلات. لم يتبق سوى ثلاثة أشهر لتقوم الشركة بـ (التشطيبات) النهائية لهذا المشروع مثل إزالة الصخور والتراب المتراكم على جنبات الطريق الناتج عن عمل الآليات من (تراكتورات) وشاحنات أثناء الشغل ومثل إنهاء عقود الحراس (السعوديين) المتعاقدين معها باستثناء من رغب منهم في العمل على عقد آخر جديد تلقته الشركة من الوزارة نفسها لسفلتة أحد الطرق في المنطقة الجنوبية.
كان (حمود الجوعان) واحداً من ثلاثة سعوديين فقط رغبوا في أن يجددوا عقودهم مع الشركة لدى انتقالها للجنوب واستلامها للمشروع الجديد هناك. أما الآخرون ـ ومن بينهم مطيع وملحان والسهو والجلاوي وابن جمشان ـ فقد فضلوا عدم تجديد عقودهم، وأكدوا رغبتهم في ذلك بإقرارات خطية، ليعودوا بعدها إلى أهليهم وذويهم في (الشمال) كما كانت حياتهم في السابق.
ويبدو أن (حموداً) قد ألف الحياة في الشركة بعد مرور هذه السنين، خاصة بعد أن أصبح يجيد التحدث باللغة الانجليزية والتفاهم بها. هذا بالإضافة إلى تأقلمه مع منسوبيها من العمال (الكوريين) والإداريين العرب.
لقد أحبه المستر (شين) لهدوئه ورزانته، ولإخلاصه في عمله الحراسي الليلي.
وكانت التقارير النصف سنوية التي كان يقدمها (السهو) للمستر (شين) عن الحراس السعوديين تثبت حرص (حمود) على واجبه طيلة السنوات الماضية دون وقوعه في خطأ أو خلل.
أما المستر (كيم) فقد بدأ أكثر ارتياحاً لـ(حمود) مع مرور الوقت حين كانا يلتقيان في الأسبوع مرتين في النادي الرياضي لممارسة رياضة الكاراتيه سويا.
وازداد إعجابا به لمثابرته وصبره وجلده في تعلم فن (الكاراتيه) وإتقانه له لدرجة تكاد تقترب من درجة إتقان المستر (كيم) نفسه لهذا الفن. وقد توطدت علاقات (حمود) مع مرور الأيام بزملائه من العمال الكوريين حتى صار يعرف ما لا يقل عن ثلاثة أرباعهم ومنهم المستر (وان) والمستر (هان) والمستر (بين) يتحدث إليهم كثيرا في السكن باللغة الانجليزية وفي المطعم وفي غيرهما من المرافق الأخرى للشركة.
كان المستر (وان) حين يأتي بالبريد للشركة آخر كل أسبوع ـ أحياناً ـ يعطي (حموداً) ظرفاً مغلقا يحتوي على بعض (المجلات أو الصور). ويضحك المستر (وان) حين يرى (حموداً) يتلقف الظرف من يده بلهفة وشغف ليدسه بين ثيابه مسرعاً إلى سكنه.
وهناك يقوم بإغلاق باب وحدته السكنية ويمضي بتصفح تلك المجلات. إنه لا يعرف القراءة ولكنه يكتفي بالنظر إلى تلك الصور المثيرة لفتيات ونساء عاريات وشبه عاريات في أوضاع جنسية مغرية.
كان ـ أحيانا ـ يحرق المجلات لدى انتهائه من مطالعتها وأحيانا أخرى يجتزئ منها بعض الصفحات المفضلة لديه ليدسها تحت سريره أو في دولاب ملابسه بين طيات ثيابه المعلقة.
لا يدري (حمود) لماذا يتصرف هذه التصرفات والسلوكيات الماجنة على الرغم من كونه تجاوز سن الأربعين؟كل ما يعرفه أنه يستمتع برؤيتها أو يتأثر بكثير من مجالسيه، ومحدثيه عندما يحكون له عن غرامياتهم مع النساء أو عندما يصفون له ما رأوه من مفاتن أجسادهن.
لكنه كان يعرف أنه ليس الوحيد بين الرجال حين يرغب في استكشاف هذه الأمور أو الاطلاع عليها سواء حين كان في مجتمعه البدوي البسيط الذي عاش فيه أو كان في مجتمع متطور كمجتمع الشركة.
كل الرجال يعشقون النساء وكل النساء يفتن الرجال، لكن لماذا يحس ـ أحياناً ـ أنه أكثر من غيره عشقا لهن وفتنة بهن. كان يمكن لغيره من الرجال أن يعشق ببساطة وأن يلتقي بمن يعشق من النساء، وربما يتزوجها دون أن يكلفه ذلك ربع ما كلفه حبه لـ (ضحى) من مشقة وعناء وبؤس ودون أن يشترط عليه مهر باهظ وخيالي قوامه رؤوس (ذئب قاع ساق وهلالة وثعبان ريع الدرب).
كان يمكنه أن يعشق ببساطة وأن يتزوج ببساطة أيضا لكن حزنه يتضاعف حين يتذكر أنه عاش طفولة بائسة في مجتمع منغلق تلاها شباب مهدر بين سفوح جبال (وادي الضواري) وسهوله وكهوفه، ثم رجولة أكثر بؤساً جعلته يمارس هواياته في فترة متأخرة كما لو كان شابا أرعن وقد تجاوز الأربعين وهو لا يزال يلهث وراء سراب العشق والزواج والمهور الخرافية.
ساعتها كان ينظر إلى وجهه في المرآة ليعرف أن (ضحى) لم تعد تنتظره، مما جعله يمزق تلك المجلات، ويحرق بعض ما احتفظ به لديه من صفحاتها بحنق وبؤس لم يشعر بهما من قبل.
وتأكد لديه هذا الشعور البائس حين أبلغه (ملحان) لدى زيارته له في الشركة قبل يومين أن عمه (عجلان) قد أعطى نية الزواج لـ (ضحى) من ابن عمها (جهز) الذي يعمل في أحد القطاعات العسكرية في مدينة (تبوك) بعد أن تبين له أن (حموداً) قد تجاوز الأربعين دون أن يفي بشروط الزواج التي فرضت عليه.
كانت الشركة تنفض من يديها آخر غبار مشروع سفلتة (طريق الشمال) حين أعلن الأستاذ (حسن أرسلان) بـ (الميكروفون) من مبنى الإدارة بيانا على شكل تعميم داخلي مضمونة أن الشركة قد وضعت لمساتها الأخيرة على المشروع.
وستستدعي طاقما من المشرفين والمتابعين له من مقر الوزارة في الرياض لزيارة الشركة في موقعها وأخذ جولة تفقدية على طول امتداد الطريق لمراجعة ما إذا كان قد استوفى جميع شروط البنود المتفق عليها بين الوزارة والشركة ومن ثم تسليمه واستلامه بحيث يكون جاهزا للافتتاح من قبل الوزير أو أحد المسئولين الكبار في الدولة.
ولذلك فإن على منسوبي الشركة المحافظة على المظهر العام والخاص للشركة لدى استقبال مثل هؤلاء المسؤولين والمندوبين. كما أن على المنسوبين خلال مدة أقصاها ثلاثة أسابيع من تاريخ هذا الإعلان أن يتأهبوا لانتقال الشركة لموقعها الجديد في (الجنوب).
كان (الجواعين) تلك الليلة مجتمعين كعادتهم لدى (منصور البو) بعد صلاة المغرب مباشرة.
عندئذ قال (منصور) وهو يدور بـ (دلة القهوة) على الجالسين حول النار:
ـ (أحسن) خبر سمعته يا جماعة إن الشركة سترحل عن ديارنا.. الحمد لله!! سنعود لمنزلنا القديم إذن بعد رحيلها.
فأجابه (ابن ريحانة) وهو يقلب عينيه في السماء:
ـ الليلة ليلة الثامن من (شعبان).. يعني شهر (رمضان) تبقى دونه واحد وعشرون ليلة تقريباً.. حبذا لو نرحل يا (جماعة) قبل دخول رمضان طالما أن الشركة تتجهز للرحيل فالجو حار ويشق علينا الرحيل في النهار ونحن صائمون!!
وهنا اختلس (أبو مصلح) لحظة سانحة للوم والتثريب حيث قال هامساً:
ـ ليتك رجعت يا (حمود) لغنمك وإبلك مثل (ملحان) و(مطيع)!!
وبعد أقل من ثلاثة أسابيع كانت الشركة قد رحلت تماماً عن الموقع فيما انتقل (الجواعين) إلى منزلهم القديم وكان قد تبقى دون دخول (رمضان) ليلتان فقط. وانقطعت أخبار (حمود) عن أهله في (الشمال) بعد رحيل الشركة واستلامها للمشروع الجديد في (الجنوب) ومضت ثلاث سنوات على ذلك.
كل ما يعرفه عن أهله ليس أكثر من أخبار هامشية يشك في صحتها يأتونه بها أناس من أبناء القبائل المجاورة للجواعين مثل زواج (ضحى) من (جهز) ووفاة (ابن ريحانة) وسماع خبر عبر الإذاعة عن قتل ذئب متوحش ضخم الجثة من سباع (وادي الضواري) على يد قناص ماهر من أهل تلك المنطقة شك فيما بينه وبين نفسه أنه ذئب (قاع ساق). لقد عاش حمود غريباً بين أهله في (الشمال) وها هو الآن يعيش غريباً بين غيرهم في (الجنوب) وربما تمتد مسيرة غربته إلى حد لا يعلمه.
قيل إن الشركة بعد انتهائها من مشروع ¬(الجنوب) بخمس سنوات لم ترغب بتجديد عقود الحراس (السعوديين) معها لكونها قد أنهت تعاقدها مع وزارة المواصلات نهائياً ليعود عمالها (الكوريين) لبلادهم. ولذلك فإن (حموداً) قد فضل الإقامة في الجنوب خاصة بعد أن تزوج امرأة من أهل تلك المنطقة.
وقيل أيضاً إن المهندس (مصطفى الهيري) مساعد مدير المشروع قد ساعده في السفر معه لـ (مصر) وإنهاء جميع إجراءات هذا السفر لإلحاقه بمعهد (الكاراتيه) أو أحد الأندية الرياضية المختصة بهذا الفن الرياضي في القاهرة.

مع تحيات محبكم ابو عبد المجيد مع العذر والسموحه فالنص طويل الا انه يستحق القراءه لان الروايه تلقي الضوء على حاله واقعيه لشريحه من مجتمعنا في فتره وربما لازالت ولها اهميتها في معالجة واقعنا الاجتماعي --على انني اجزم ان هذه الرويه لو خرجت على شكل مسلسل او مسرحيه لكانت الاستفاده اكثر وشكرا لكم وشكرنا لاستاذنا العبسي السعودي شاعر العرب الجليل هذا الطرح الثقافي الرائع








التوقيع :
آخر تعديل ابوعبدالمجيد1 يوم 05-17-2010 في 01:50 PM.

رد مع اقتباس
 
قديم 05-18-2010, 01:35 AM   رقم المشاركة : 4
عضو ذهبي
 
الصورة الرمزية الباحث





الحالة
الباحث غير متواجد حالياً

الباحث is on a distinguished road

وسام الكاتب المميز 


 

افتراضي رد: اقدام تنتعل السراب

اقدام تنتعل السراب روايه للكاتب والشاعر والاعلامي الاستا ذ حمد حميد الرشيدي وله روايه اخرى بعنوان شوال الرياض سبق وان اخذت المركز الاول وطبعت من قبل مكتبة الملك عبد العزيز كما له ديوانين اخرين قدم لاحدهما الدكتور ابراهيم العواجي--- مشكور ابو عبد المجيد على نقل هذه الرائعه الهادفه للاديب الكبير شاعر العرب حمد الرشيدي







من مواضيع في المنتدى

التوقيع :

من صغر سني وانا في منهجي غير
تكوين خلقـي نـادرٍ ما لقيتـه



اطمح على الاول ولا أطيق الاخيـر
وابرز نجاحي في طريـقٍ مشيتـه
آخر تعديل ابوعبدالمجيد1 يوم 05-27-2010 في 10:18 AM.

رد مع اقتباس
 
قديم 05-25-2010, 10:15 PM   رقم المشاركة : 5
مسـتــشار الـمـوقـع
 
الصورة الرمزية ابوعبدالمجيد1





الحالة
ابوعبدالمجيد1 غير متواجد حالياً

ابوعبدالمجيد1 is on a distinguished road

كبار الشخصيات وسام الاداره 


 

افتراضي رد: اقدام تنتعل السراب

تحديث للموضوع








التوقيع :

رد مع اقتباس
 
قديم 05-25-2010, 10:46 PM   رقم المشاركة : 6
شاعر نظم وشاعر محاوره وعضو مجلس الاداره ومشرف ساحة الشعر والادب
 
الصورة الرمزية ثويمر العجوني




الحالة
ثويمر العجوني غير متواجد حالياً

ثويمر العجوني is on a distinguished road

وسام الشعر الاوسمه الافتراضيه 


 

افتراضي رد: اقدام تنتعل السراب

مشكوريامسشارنا الغالي يابوعبد المجيد كثر الله من مثالك
الله يبيض وجهك على نقل هذه المعلومات الرائعه والمفيده
و الهادفه للاديب الكبير شاعر العرب حمد الرشيدي
تقبل مروري






من مواضيع في المنتدى

التوقيع :

رد مع اقتباس
 
قديم 05-27-2010, 10:23 AM   رقم المشاركة : 7
مسـتــشار الـمـوقـع
 
الصورة الرمزية ابوعبدالمجيد1





الحالة
ابوعبدالمجيد1 غير متواجد حالياً

ابوعبدالمجيد1 is on a distinguished road

كبار الشخصيات وسام الاداره 


 

افتراضي رد: اقدام تنتعل السراب

شكرا ابا نايف --مرورك شرف وفخر كيف لا وانت الشاعر المبدع والاداري الناجح وصاحب التعبير العاقل المميز فشكرا والله يحفظك








التوقيع :

رد مع اقتباس
 
قديم 06-19-2010, 07:29 PM   رقم المشاركة : 8
مراقب عام
 
الصورة الرمزية فيصل البراااك





الحالة
فيصل البراااك غير متواجد حالياً

فيصل البراااك is on a distinguished road

الاوسمه الافتراضيه المشرف المميز 


 

افتراضي رد: اقدام تنتعل السراب

مشكوريامسشارنا الغالي يابوعبد المجيد كثر الله من مثالك
الله يبيض وجهك على نقل هذه المعلومات الرائعه والمفيده
و الهادفه للاديب الكبير شاعر العرب حمد الرشيدي
تقبل مروري






من مواضيع في المنتدى

التوقيع :
((ليت الزمان اللي حكمني بالأبعاد يعيد حكمه لي بجمع الحبايب))







رد مع اقتباس
 
قديم 08-10-2010, 09:00 PM   رقم المشاركة : 9
عضو فضي
 
الصورة الرمزية العذب





الحالة
العذب غير متواجد حالياً

العذب is on a distinguished road


 

افتراضي رد: اقدام تنتعل السراب

صح ىلسان شاعرها
ولاهنت يا من نقلها
رائع دائما بمواضيعكـ
وماقصرت

والله يعطيكـ العافية

تقبل مروري







من مواضيع في المنتدى

التوقيع :

رد مع اقتباس
 
قديم 06-09-2011, 08:34 PM   رقم المشاركة : 10
عضو ألـمـاســــي





الحالة
مرووووقتها غير متواجد حالياً

مرووووقتها is on a distinguished road


 

افتراضي رد: اقدام تنتعل السراب

قصه رو و و وعه وكاتب اروع اعجبتني شخصية (حمود) نتمنا نشوفه مسلسل مثل ماقلت _بس بصراحه يخوف ذيب ساق مدري شسمه __







من مواضيع في المنتدى

التوقيع :
يابوي بنتك لاعــــــوى الذيب (( ذيبــــــــــــــــه ))

رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:19 PM.


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi