شرح حديث ( القابض على دينه كالقابض على الجمر » رواه الترمذي .
تأملوا هذا الكلام الذي كتبه العلامة ابن سعدي قبل 65 سنة في شرح حديث «القابض على دينه»
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم . أما بعد:
فقد أعجبني ما كتبه العلامة ابن سعدي ـ رحمه الله ـ في شرح هذا الحديث، وهو آخر حديث في كتابه النفيس «بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار» :
الحديث التاسع والتسعون
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر » رواه الترمذي .
وهذا الحديث أيضا يقتضي خبرا وإرشادا .
أما الخبر ، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه في آخر الزمان يقل الخير وأسبابه ، ويكثر الشر وأسبابه ، وأنه عند ذلك يكون المتمسك بالدين من الناس أقل القليل ، وهذا القليل في حالة شدة ومشقة عظيمة ، كحالة القابض على الجمر ، من قوة المعارضين ، وكثرة الفتن المضلة ، فتن الشبهات والشكوك والإلحاد ، وفتن الشهوات وانصراف الخلق إلى الدنيا وانهماكهم فيها ، ظاهرا وباطنا ، وضعف الإيمان ، وشدة التفرد لقلة المعين والمساعد .
ولكن المتمسك بدينه ، القائم بدفع هذه المعارضات والعوائق التي لا يصمد لها إلا أهل البصيرة واليقين ، وأهل الإيمان المتين ، من أفضل الخلق ، وأرفعهم عند الله درجة ، وأعظمهم عنده قدرا .
وأما الإرشاد ، فإنه إرشاد لأمته ، أن يوطنوا أنفسهم على هذه الحالة ، وأن يعرفوا أنه لا بد منها ، وأن من اقتحم هذه العقبات ، وصبر على دينه وإيمانه - مع هذه المعارضات - فإن له عند الله أعلى الدرجات ، وسيعينه مولاه على ما يحبه ويرضاه ، فإن المعونة على قدر المؤونة .
وما أشبه زماننا هذا بهذا الوصف الذي ذكره صلى الله عليه وسلم ، فإنه ما بقي من الإسلام إلا اسمه ، ولا من القرآن إلا رسمه ، إيمان ضعيف ، وقلوب متفرقة ، وحكومات متشتتة ، وعداوات وبغضاء باعدت بين المسلمين ، وأعداء ظاهرون وباطنون ، يعملون سرا وعلنا للقضاء على الدين ، وإلحاد وماديات ، جرفت بخبيث تيارها وأمواجها المتلاطمة الشيوخ والشبان ، ودعايات إلى فساد الأخلاق ، والقضاء على بقية الرمق .
ثم إقبال الناس على زخارف الدنيا ، بحيث أصبحت هي مبلغ علمهم ، وأكبر همهم ، ولها يرضون ويغضبون ، ودعاية خبيثة للتزهيد في الآخرة ، والإقبال بالكلية على تعمير الدنيا ، وتدمير الدين واحتقاره والاستهزاء بأهله ، وبكل ما ينسب إليه ، وفخر وفخفخة ، واستكبار بالمدنيات المبنية على الإلحاد التي آثارها وشررها وشرورها قد شاهده العباد .
فمع هذه الشرور المتراكمة ، والأمواج المتلاطمة ، والمزعجات الملمة ، والفتن الحاضرة والمستقبلة المدلهمة - مع هذه الأمور وغيرها - تجد مصداق هذا الحديث .
ولكن مع ذلك ، فإن المؤمن لا يقنط من رحمة الله ، ولا ييأس من روح الله ، ولا يكون نظره مقصورا على الأسباب الظاهرة ، بل يكون متلفتا في قلبه كل وقت إلى مسبب الأسباب ، الكريم الوهاب ، ويكون الفرج بين عينيه ، ووعده الذي لا يخلفه ، بأنه سيجعل له بعد عسر يسرا ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن تفريج الكربات مع شدة الكربات وحلول المفظعات .
فالمؤمن من يقول في هذه الأحوال : " لا حول ولا قوة إلا بالله " و" حسبنا الله ونعم الوكيل . على الله توكلنا . اللهم لك الحمد ، وإليك المشتكى . وأنت المستعان . وبك المستغاث . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " ويقوم بما يقدر عليه من الإيمان والنصح والدعوة . ويقنع باليسير ، إذا لم يمكن الكثير . وبزوال بعض الشر وتخفيفه ، إذا تعذر غير ذلك : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } ، { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } ، { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } [ الطلاق : 2 ، 3 ، 4 ]
منقول من الساحة الاسلامية
وللفائدة هذا تخريج الحديث
957 - " يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر " .
قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 682 :
رواه الترمذي ( 2 / 42 ) و ابن بطة في " الإبانة " ( 1 / 173 / 2 ) عن عمر بن
شاكر عن أنس مرفوعا . و قال الترمذي : " حديث غريب من هذا الوجه ، و عمر بن
شاكر شيخ بصري و قد روى عنه غير واحد من أهل العلم " .
قلت : و هو ضعيف كما في " التقريب " . لكن الحديث صحيح ، فإن له شواهد كثيرة :
الأول : عن أبي ثعلبة الخشني في حديث له بلفظ : " فإن من ورائكم أياما الصبر
فيهن مثل القبض على الجمر .. " الحديث . أخرجه جماعة منهم الترمذي ( 2 / 177 )
و قال : " حديث حسن غريب " ، و صححه ابن حبان ( 1850 ) .
قلت : و في سنده ضعف كما كنت بينته في " تخريج المشكاة ( 5144 ) .
الثاني : عن أبي هريرة مرفوعا في حديث له : " المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على
الجمر " . أخرجه أحمد ( 5 / 390 - 391 ) و أبو عمرو بن منده في " أحاديثه " ( ق
18 / 2 ) و ابن عساكر في " تاريخ دمشق " ( 19 / 252 / 2 ) من طرق عن ابن لهيعة
عن أبي يونس عنه .
قلت : و إسناده لا بأس في الشواهد رجاله ثقات غير ابن لهيعة ، فإنه سيء الحفظ .
الثالث : عن ابن مسعود مرفوعا بلفظ : " يأتي على الناس زمان المتمسك فيه بسنتي
عند اختلاف أمتي كالقابض على الجمر " . أخرجه أبو بكر الكلاباذي في " مفتاح
المعاني " ( ق 188 / 2 ) و الضياء المقدسي في " المنتقى من مسموعاته بمرو "
( 99 / 1 ) من طريقين عن حميد بن علي البختري حدثنا جعفر بن محمد الهمداني
حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن مغيرة عن إبراهيم عن الأسود عنه .
قلت : من دون أبي إسحاق - و اسمه إبراهيم بن محمد ثقة حافظ - لم أعرفهم .
و قد عزاه السيوطي للحكيم الترمذي عن ابن مسعود ، و بيض له المناوي !
و جملة القول أن الحديث بهذه الشواهد صحيح ثابت لأنه ليس في شيء من طرقها متهم
، لاسيما و قد حسن بعضها الترمذي و غيره ، و الله أعلم