الدكتور عبدالحفيظ الحداد
باحث في الهيئة العالمية للإعجاز مقيم في السعودية
إن القرآن العظيم الذي هو كلام الله ـ جل وعلا ـ يمتاز بخصائص متكاثرة نستطيع أن نعدد منها غزارة المعاني التي تدل عليها نصوصه وهذا مما حفلت بها ألفاظه وتراكيبه وآياته مع فيض الدلالات التي تستقى من ذلك كله وبدون حدود؛ حيث يتوفر ذلك كله في ساحة بيان باهرة تشتمل على كل المواضيع وفي كافة المستويات بشكل قد أحاط بكل أنواع الهداية حتى إنه لا نكاد نرى إنسانا يقرأ شيئا من كتاب الله ـ عز وجل ـ إلا ويحصل في قراءته من الفائدة الشيء الكثير، ولكن بحسب مستواه وبمقدار تدبره، وعلى قدر استعداده، وتبعا لهمته وتركيزه.
ولذلك نرى تنوع التفاسير وتعدد ألوانها وتفرع نتائجها ومعطياتها بل ووفرة استنباطاتها وثمراتها. وبملاحظة اختلاف الزمن الذي تكتب فيه تلك المؤلفات في التفسير، وكذا ما يستجد من معارف وأحوال، فإننا نلاحظ دخول جزئيات ومفاهيم تضاف إلى ما سبق، وبالتالي فإن الاطلاع والتتبع والمقارنة في هذا الميدان توصلنا إلى حقيقة مفادها: أن علم التفسير قد مر بأطوار عدة. ويهمنا هنا الآن أن نذكر بأن الله سبحانه وتعالى قد كلفنا بتدبر آياته وبتبيين أهل العلم معانيه للناس، ولذلك فإن من كان لا يملك الأهلية التامة لإدراك مرامي التنزيل فإنه مكلف بسؤال أهل العلم والدليل على الحكم الأول قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل: 44)، وقوله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) (ص: 29)، والدليل على الحكم الثاني قوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83).
أجل فإن كتاب الله معطاء ومغدق ولذلك فإننا لا ننكر حصول استثمار جديد لعطائه مع مرور الزمن سواء في السعة الدلالية أو العمق البياني لنصوصه الكريمة بناء على ما يستجد من وسائل وأحوال تعين على مزيد كشف، وإضافة بيان ومن هذا القبيل ما حصل من توسع دائرة التفسير العلمي في زمننا هذا تبعا لمزيد الكشوفات العلمية في الكون، وهنا نتوقف لاستجلاء مثال على ما ذكرنا من خلال تأمل عدة نصوص قرآنية تتعلق بموضوع يختص بدلالة قسمات الوجه على واقع الإنسان ومن ثم فإن فيها ترجمة لحقيقة ما تنطوي عليه نفسه من خلال ما يطلق عليه اسم سيما الإنسان أو قسمات وجهه ومحياه وهنا نلاحظ من تلك النصوص ما يأتي:
1. قوله تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) (محمد: 30).
2. وقوله تعالى: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (الفتح: 29).
3. وقوله تعالى: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ{ (الرحمن: 41).
4. وقوله تعالى: (تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً) (البقرة: 273).
5. وقوله تعالى: (وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ) (الأعراف: 46).
6. وقوله تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) (محمد: 30).
7. وهكذا قوله تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ) (النحل: 58).
فواضح من عموم هذه الآيات أنها تشير إلى حقيقة مفادها أنه من خلال استجلاء سيما الإنسان وقسمات وجهه فإنه تحصل لنا ترجمة بالوجه ـ في مقاطعه وملامحه وحالته من الإشراق أو غيره ـ لما يعتمل في داخل وأعماق نفسه، ولما يستكن بين جوانح ذلك الإنسان؛ مما يمكن أن نعبر عنه بأن الوجه ترجمان النفس، فمثلا (الآية: 58 من سورة النحل) تدل على أن الجاهلين الذين انحرفت فطرتهم ولم تعد تتقبل مقادير الله التي تخالف أهواءهم لذلك فقد صاروا يمقتون ولادة الأنثى لهم بحيث كان وجه أحدهم يكاد ينطق بتلك الكراهية لشدة ظهور آثار الحزن وعلامات الحسرة والأسى على وجهه لدى ولادة تلك الأنثى وهكذا سطرت الآية الكريمة هذه الحقيقة وهي قول الله تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ) وبالمقابل نجد أن الإنسان الذي تحصل له مسرة ويمر بحال من الابتهاج فإن وجهه يكاد يفصح عما هو عليه من السرور والبهجة وذلك من خلال تهلل قسمات وجهه والإشراقه التي تعلوه ولقد جاء ذكر ذلك في كتاب الله ـ عز وجل ـ ضمن عدة نصوص منها قوله تعالى عن المصلين الذين يتبتلون لربهم ويستروحون نسائم القرب من مولاهم فتحصل لهم طمأنينة القلب وانشراح الصدر وبالنتيجة يترجم هذا الحال على قسمات الوجه قال تعالى: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ){ (الفتح: 29). وعلى الطرف المناقض فإن الإنسان الكافر بما يتفاعل في خبيئة نفسه من الكنود والجحود والشك والضلال يكاد وجه أحدهم ينطق بذلك كله قال تعالى في سورة الحج 72: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ). 55
منقوووووووووووووول