لا يخفى على أحد الجانب السياسي والإصلاحي في شخصيّة الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز آل سعود .. تلك الشخصية القوية المحنكة الداهية، المتمرّسة بالسلطة والإدارة منذ نعومة أظفارها .. ولكن ما قد يخفى على كثيرين أن الملك الراحل كان شاعرا بارزا في ميدان المحاورة والرد على الشعراء، وربما استغرق منه الشعرُ الليلَ كله بعد أن يبدأ في الإبحار في أعماقه .. وكانت معظم محاورته مع الشاعر الكبير وقتها عبدالله بن عبدالرحمن العنقري المعروف بـ (لويحان) الذي كان " خوي " له ورفيق ملازم .. بالإضافة إلى محاورات أخرى مع شعراء من نجد والحجاز ..
وفي الحقيقة تلك الأشعار والمحاورات لم يوثق الكثير منها بصورة لائقة، رغم كونها سجلا يؤرخ لحوادث سياسية أو قضايا اجتماعية وثقافية .. ولكن بقيت ذاكرة الناس وثقافتهم الشفاهية تتناقلها وترويها جيلا بعد جيل .. وأحيانا في تلك المحاورات يتهّيب الشاعر المقابل الردّ على فيصل بالمثل لمكانته السياسية وشخصيته المهيبة، فيطلب منه الأمان، فيمنحه إياه حتى يقوى على الجواب بحريّة .. وربما بالغ بعض الشعراء في الجرأة فتناول أمورا تمسّ السمعة والأخلاق، فيحتملها منه فيصل ويجيب عليها رغم شعوره بالغضب والفوران ..
وسوف نقف أمام نموذج مشهور لدى الناس، ولم أجده مدوّنا في الكتب .. وهي محاورة بين الأمير فيصل، كما كان وقتها، وشاعر آخر من عتيبة، لا أعرف اسمه الأول، يقال له الأزوري (نسبة إلى فخذ من عتيبة) .. وكان فيصل يفتخر بفتح الحجاز، حيث قاد الجيش عام 1925م وحقق الانتصار، ودخل إقليم الحجاز في تابعية الدولة السعودية بعد القضاء على حكم الأشراف، وأصبح فيصل هو نائب الملك في الحجاز وأوّل أمير سعودي عليه .. ولكن الأزوري يردّ عليه مذكّرا إياه بدور " خالد بن لؤي " في التمهيد لهذا الغزو، والذي لولاه لما تمّ لابن سعود الاستيلاء على السلطة في الحجاز .. فمن هو خالد بن لؤي هذا ؟؟ وماذا كان دورة بالضبط ؟؟؟
خالد بن لؤي ( توفي 1933م) هو أمير الخرمة من الأشراف العبادلة .. كان تحت ولاء الشريف حسين الذي أرسله مع ابنه عبد الله لحصار بقايا الأتراك في الطائف، ثم المرابطة بوادي العيس شرقي المدينة .. ولكن عندما اعتدى أحد شيوخ عتيبة على خالد لم ينتصر له عبد الله، مما جعل خالدا يفارقه راجعا إلى الخرمة .. وهناك بدأ بمكاتبة سلطان نجد عبد العزيز بن سعود يعرض عليه الطاعة والولاء .. ويبدو أن هذا القرار لم يكن فقط وليد السخط والشعور بالخذلان، بل أيضا قراءة لموازين القوى واستشرافا لتطوّر الأحداث والمواجهات بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ومماطلة الانجليز الشريف حسين في انجاز وعودهم له بتنصيبه ملكا على البلاد العربية ..
وعندما علم الشريف حسين بانقلاب ابن عمه أمير الخرمة أرسل له عبد الله بن الحسين على رأس جيش من جنوده وحلفائه من القبائل .. واستقرّ في تربة بالقرب من الخرمة بانتظار المزيد من الحشود .. ولكن السلطان عبد العزيز كان قد أرسل قوات لنصرة خالد بن لؤي بقيادة سلطان بن بجاد شيخ عتيبة وأحد زعماء " الأخوان " .. واستطاع بن بجاد أن يباغت قوات الشريف فجرا ويوقع بها هزيمة قاصمة في إحدى المعارك الشهيرة في غزو الحجاز ( معركة تربة 1919م) .. وتمكّن عبد الله بن الحسين من الفرار هو وقلة من أعوانه ...
وقد كان لخالد بن لؤي شأن كبير في كل المعارك والغزوات التي قام بها ابن سعود ضد الشريف حسين .. فقد شارك في فتح الطائف، ومكة التي أشرف فيها على إدارة الأعمال قبل دخول ابن سعود .. وشارك في حصار جدة الذي استمرّ لأشهر حتى خروج الشريف عليّ بن الحسين ونهاية حكم الأشراف في الحجاز ..
في هذه المحاورة يقول فيصل :
يوم جينا وذا الديرة سنود
وكل وادي يغيض ويمتلي
قبل تاتي بيارق بن سعود
كل قبر تحط لك ولي
ويجيب عليه الأزوري قائلا :
يوم جيتم ليا الديرة سهود
عبدلي ينطرد له عبدلي
وانت خلوك في تالي الجنود
ما فتح بابها الا بن لوي
ولا شك أن كلمة الأزوري كانت في الصميم، وقد تأثر لها فيصل رحمه الله .. ولكن هكذا هي المحاورة وتلك هي حقائق التاريخ والوقائع .. والحقيقة لا ينبغي أن تُغضِب أحدا .. !