إنَّ الحرص على تحصيل الخير وتثبيته من خير الموارد، والسعي في سبيل إدامته وتنميته من أفضل المعاقد، والعزم على توفير مجاله وتكثير خصاله من أخلص المقاصد، تلك هي خصائص البركة ومقوماتها ـ وماهيتها وكنهها ـ وكذلك سمات أهلها في استحضارها واستصحابها واستشعارها ـ إيقاعا وموافقةً ـ، فالبركة من المطالب الجليلة التي يرجوها العبد في حياته في عموم أحواله، بل في كل شؤونه، وهي كذلك من المكاسب الجميلة التي يفرح بها ويسعد طالبها وصاحبها، وهي منة وهبة من الله تعالى على من يشاء من عباده والتي تنال بطاعته ـ في أمره ومراده ـ قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «وكل شيء لا يكون لله فبركته منزوعة؛ فإن الله تعالى هو الذي تبارك وحده، والبركة كلها منه، وكل ما نسب إليه مبارك»(1).
وإن المبارك من الناس أينما كان هو الذي ينتفع به حيث حل أو ارتحل، ويستفاد منه إذا قال شيئا أو عمل، فهذا الصنف من الناس هم الأكابر من ذوي العلم والفضل، وهم الذين تنفع العبد مجالستهم، وتفيده مساءلتهم، وتهديه متابعتهم، وتحميه مسايرتهم، ويسعد ولا يشقى من اقتدى بهم، وهم الذين جاءت الإشادة والتنويه بفضائلهم وخصائصهم، وثبتت الإشارة والتوجيه بلزوم غرزهم ـ بالرجوع إليهم والصدور عنهم وعدم العدول بهم إلى غيرهم ـ فقد جاء بذلك التوجيه النَّبويُّ كما في رواية ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «البركة مع أكابركم»(2)، هم الأكابر حسًّا ومعنى، قدرًا وأثرًا.
«فالبركة مع أكابركم المجربين للأمور، والمحافظين على تكثير الأجور فجالسوهم لتقتدوا برأيهم وتهتدوا بهديهم، أو المراد من له منصب العلم وإن صغر سنه، فيجب إجلالهم حفظا لحرمة ما منحهم الحق سبحانه وتعالى، وقال شارح «الشهاب»: هذا حث على طلب البركة في الأمور والتبحبح في الحاجات بمراجعة الأكابر لما خصوا به من سبق الوجود وتجربة الأمور وسالف عبادة المعبود، قال تعالى: ﴿قَالَ كَبِيرُهُمْ﴾ [يوسف: 80] وكان في يد المصطفى صلى الله عليه وسلم سواك فأراد أن يعطيه بعض من حضر، فقال له جبريل: كبر كبر، فأعطاه الأكبر(3)، وقد يكون الكبير في العلم أو الدين فيقدم على من هو أسن»(4).
وقال الكلاباذي: «الكبراء، أي: ذوو الأسنان والشيوخ الذين لهم تجارب، وقد كملت عقولهم، وسكنت حدَّتُهم، وكملت آدابهم، وزالت عنهم خفَّة الصِّبى، وحدَّة الشَّباب، وأحكموا التجارب، فمن جالسهم تأدب بآدابهم وانتفع بتجاربهم، فكان سكونهم ووقارهم حاجزا لمن جالسهم وزاجرا لهم عما يتولد من طباعهم»(5).
وإن الناس لن يزالوا بخير وصلاح وأجر وفلاح ما داموا مرتبطين بأكابرهم ـ ذوي العلم والفضل ـ ومنضبطين بتعاليمهم، وكانوا آخذين عنهم علومهم؛ فإنهم إن حرموا ذلك أو تركوه كذلك هلكوا بذلك، ويؤيد هذا ما جاء عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «لن يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من قبل أكابرهم، وذوي أسلافهم، فإذا أتاهم من قبل أصاغرهم هلكوا»(6)، ففي هذا الحديث تحذير ونكير عن الإقبال على الأصاغر مع وجود الأكابر؛ لأن ذلك مظنة الهلكة، ومن مساوئ ذلك ما حذر منه ابن مسعود في قوله: «إنكم لن تزالوا بخير ما دام العلم في ذوي أسنانكم، فإذا كان العلم في الشباب أنف ذو السن أن يتعلم من الشباب»(7)، قال ابن قتيبة: «يريد: لا يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ، ولم يكن علماؤهم الأحداث؛ لأن الشيخ قد زالت عنه متعة الشباب وحدته وعجلته وسفهه، واستصحب التجربة والخبرة، فلا يدخل عليه في علمه الشبهة، ولا يغلب عليه الهوى، ولا يميل به الطمع، ولا يستزله الشيطان استزلال الحدث، ومع السن والوقار والجلالة والهيبة، والحدث قد تدخل عليه هذه الأمور التي أمنت على الشيخ فإذا دخلت عليه وأفتى هلك وأهلك»(8).
وعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: «قد علمت متى صلاح الناس ومتى فسادهم؛ إذا جاء الفقه من قبل الصغير استعصى عليه الكبير، وإذا جاء الفقه من قبل الكبير تابعه عليه الصغير فاهتديا»(9)، فإن التماس الناس العلم من علمائهم الراسخين وأئمتهم المحققين دليل على سلوكهم سبيل الطلاب الصادقين واتباع طريق المهتدين، وذلك باغتنامهم للمجالس ـ مجالستهم ومشافهتهم ـ واعتمادهم المسالك ـ بالرحلة إليهم والرجوع إليهم ـ قال سلمان ـ رضي الله عنه ـ: «لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم الآخر، فإذا هلك الأول قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس»(10).
ولذلك كان حرص السلف الصالح شديدا وسديدا على طلبه من أهله وعلى وجهه ووفق أدبه وحقه وحده، فكانوا يجالسون أهله ويخاللون حملته ويخالطون طلبته، قال أبو الدرداء: «من فقه الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه مع أهل العلم»(11)، وقال أبو جحيفة ـ رضي الله عنه ـ: «جالس الكبراء وخالل العلماء وخالط الحكماء»(12)، فكان ذلك سبب الثناء وسلم السناء لطلبهم العلم عن أهله العلماء الأمناء الكبراء الفضلاء، فقد استهل الإمام البخاري كتاب العلم ـ الذي جعل أبوابه كثيرة وفوائده غزيرة حيث صيرها وجعلها ثلاثة وخمسين بابا ـ بباب ترجمه وصدره بقوله: باب فضل العلم وقوله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: 11]، وقوله ـ عز وجل ـ: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114].
فالأكابر هم الذين يرجع إليهم عند وقوع النوازل والمستجدات وحلول العوارض والمعضلات وحصول الفتن والمدلهمات، وذلك لأن نظراتهم ثاقبة بعيدة، وآراءهم صائبة رشيدة، وأحكامهم جامعة سديدة، وآثارهم مانعة حميدة، فكما أن صلاح العالَم بفتيا العالِم، فكذلك صلاح الأصاغر وفلاحهم في اتباع الأكابر وملازمتهم، فلا يفتئتون عليهم ولا يتقدمون بين أيديهم ولا يسبقونهم بالقول ـ في المسائل فضلا عن المشاكل ـ، وإنما يُرجعون القول إليهم ويُصدِرون بالقول عنهم، فهم الذين جعل الله سبحانه وتعالى عماد الناس عليهم في العلم والعمل وفي أمور الدين والدنيا، قال الآجري ـ رحمه الله ـ: «فما ظنُّكم ـ رحمكم الله ـ بطريق فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فإن لم يكن فيه ضياء وإلا تحيرَّوا، فقيَّض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت طبقات من الناس لا بد لهم من السلوك فيه فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ طفئت المصابيح فبقوا في الظلمة، فما ظنكم بهم؟ هكذا العلماء فيه الناس لا يعلم كثير من الناس كيف أداء الفرائض ولا كيف اجتناب المحارم، ولا كيف يُعبَد اللهُ في جميع ما يعبده به خلقُه إلا ببقاء العلماء، فإذا مات العلماء تحير الناس ودرس العلم بموتهم وظهر الجهل، فإنا لله وإنا إليه راجعون، مصيبة ما أعظمها على المسلمين»(13)، وفي هذا جاء قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83].
قال عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ: «هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة، عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه، ولهذا قال: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة، وفي هذا دليل لقاعدة أدبيَّة وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى إلى من هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ، وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام، والنظر فيه هل هو مصلحة فيقدم عليه الإنسان أم لا فيحجم عنه»(14).
فالعلماء الأكابر نفعهم للعامة ظاهر، فأقدامهم في العلم راسخة وعقولهم للحكمة جامعة، وتوجيهاتهم للأمة نافعة، وكلماتهم لسامعيها ومبلَّغيها ماتعة، وتحذيراتهم للعاملين بها من الشر مانعة، كيف لا وهم الذين لو وردت عليهم الشبه بعدد أمواج البحر أو نجوم السماء ما أذهبت ثباتهم، ولا أزالت يقينهم، ولا ألقت في نفوسهم شكا، بله فلا تستفزهم الشبهات ولا تستهويهم الشهوات، وليس ذلك إلا للعلماء الذين هم أمنة للأمة جمعاء في كل الأرجاء، أولئك هم ورثة الأنبياء، فهم حملة الخير ـ العلم النافع ـ الأمناء والأدلاء على الهدى الحكماء، والقائمون على تعليمه الناس وتعميمه بينهم، المخلصون النزهاء، والذابون عن رياضه وحياضه في وجه المتعالمين الدخلاء، والمبطلين والجهلاء، وفي الحديث: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»(15)، فإنهم هم الذين يسوسون العباد والبلاد والممالك، فإذا ذهب العلماء أو قام مقامهم غير العلماء من المتعالمين والدخلاء حلت بالأمة بل العالم المصائب النكراء وفشت بها الوقائع الشنعاء.
وفي هذا السياق جاء قوله صلى الله عليه وسلم: «حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا»(16)، وقال الحسن: كانوا يقولون: «موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدُّها شيء ما اختلف الليل والنهار»(17)، كثيرا ما حذَّر العلماء من هذا الداء الخطير وأنذر الحكماء خطره المستطير، فالتنبه له أمر لازم وجدير، فكانوا يذكرون أسبابه ودواعيه وينكرون ـ كذلك ـ وسائله وذرائعه، ومن ذلك ما أشار إليه الحافظ ابن رجب الحنبلي قائلا: «وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة فمن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله، وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا فظنوا أن من كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك، وهذا جهل محض، وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كأبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت كيف كان كلامهم أقل من كلام ابن عباس وهم أعلم منه»(18).
فليس للأصاغر منازعة الأكابر، وليس للطلاب مجادلة العلماء، وإنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم والصبر بالتصبر، فمسايرتهم بجميل السيرة والأدب بريد وسبيل حسن التحصيل والطلب، ومن منع الأصول حرم الوصول، ومن استعجل الشيء قبل أوانه جوزي بحرمانه.
قال إسماعيل بن أبي خالد: «مشى أبو سلمة بن عبد الرحمن يوما بيني وبين الشعبي، فقال له الشعبي: من أعلم أهل المدينة؟ قال: رجل يمشي بينكما، قال الشعبي: فسألته عن أربع مسائل فأخطأ فيهن كلهن، وكان أبو سلمة ينازع ابن عباس في مسائل ويماريه، فبلغ ذلك عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقالت: إنما مثلك يا أبا سلمة مثل الفَرُّوج، سمع الديكة تصيح فصاح معها! يعني: أنك لم تبلغ مبلغ ابن عباس وأنت تماريه(19)، وقال الشعبي: كان أبو سلمة يماري ابن عباس فحرم بذلك علما كثيرا(20)، وقال سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: «إذا رأيت الشاب يتكلم عند المشايخ وإن كان قد بلغ من العلم مبلغا، فآيس من خيره، فإنه قليل الحياء»(21).
والحمد لله ربِّ العالمين.
-------------------------------------
(1) «الداء والدواء» (ص202).
(2) أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (559)، والحاكم في «المستدرك» (1 /62)، وقال الحاكم: «صحيح على شرط البخاري»، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: «وهو كما قالا»، [«الصحيحة» (1778)].
(3) انظر «صحيح البخاري» (246) بمعناه.
(4) قاله المناوي في «فيض القدير شرح الجامع الصغير» (4 /325).
(5) «بحر الفوائد» (1 /129).
(6) رواه الطبراني في المعجم الكبير (9 /114)، ورواه ابن المبارك في الزهد (815) بلفظ: «لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من قبل أصحاب محمد ح وأكابرهم».
(7) رواه أبو خيثمة في العلم (155).
(8) «الفقيه والمتفقه» (2 /379).
(9) وفي رواية: «ألا وإن الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم ولم يقم الصغير على الكبير، فإذا قام الصغير على الكبير فقد»، أي: فقد هلكوا، رواه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (1 /158)، واللالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» (1 /84).
(10) رواه الدارمي (1 /278).
(11) رواه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (1 /127)
(12) رواه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (1 /126)
(13) «أخلاق العلماء»، (ص30).
(14) «تيسير الكريم الرحمن» (ص190).
(15) «مشكاة المصابيح» تحقيق الألباني (1 /23).
(16) طرف من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص ب رواه البخاري (100)، ومسلم (2673).
(17) رواه الدارمي (333).
(18) «فضل علم السلف على علم الخلف» (ص48).
(19) «تاريخ دمشق» (29 /305).
(20) «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر (1 /254).
(21) «المدخل» للبيهقي (ص388)
الشيخ/ عبدالغني عويسات