الأبعاد التاريخية للهوية المعاصرة لقبائل بني رشيد
وبما أن لا أحد من الباحثين يقول بنسبه فروع القبيلة المعاصرة إلى اسم النسب الذي تعرف به كنسب طبيعي، وإنما هي في الغالب مجموعة فروع قد تكون هي والاسم الذي تنسب إليه حالياً من أصل واحد ، أو تكون بقايا قبائل غير متباعدة النسب ، والسؤال الذي يطرح نفسه : ما هي الأبعاد التاريخية للهوية المعاصرة لقبائل بني رشيد ؟ والواقع أننا لا نجد أثراً من الأخبار أو الأشعار عن هذا السلف ( رشيد ) سوى بعض النصوص التي تمتدُ أبعادُها إلى القرن الحادي عشر من الهجرة بيان هذا :
جاء في الرحلة الحجازية لـ (أوليا جلبي) عام 1081هـ خبر إنتهاب الحاج الشامي في قلعة العلاء من قبل ابن رشيد ، وهذا الخبر نفسه ورد ذكره في
قافلة الحاج الشامي لـ ( مأمون عبدالله أصلان ) باسم ( عرب حمولة الرشيد ) ، وجاء في كتاب : ( معان : kark Barbir ، ص 49 ) في جدول هجمات القبائل على قوافل الحاج أن المهاجم في عرب حمولة الرشيد يدعى ( حمود آل رشيد ) ، وقد نوّه محقق رحلة ( أوليا جلبي ) عن الخلط بين ابن رشيد هذا وابن رشيد الشمري ؛ لأن هذا الأخير لم يظهر على الساحة السياسية في المنطقة إلا في القرن التاسع عشر ، فيما الأول كان ظهوره عام 1671م ، أي : قبل ظهور
ابن رشيد الشمري بأكثر من مئتين عام ، وقد علق الأستاذ المحقق : راشد بن
1-حمدان الأحيوي على هذا الخبر وما نقل عنه قائلاً : ( وفي ظني أن هذا النص هو أقدم نص عن قبيلة بني رشيد .. ) (13).
2-زودني الأستاذ والباحث : فائز بن موسى البدراني بوثيقة صادرة من
محكمة المدينة المنورة في القرن الحادي عشر من الهجرة باسم شيخ عشيرة ينتهي نسبه إلى ( الرشيدي ) ، ثم بلقب يشار به إلى قبيلة بني رشيد الحاضرة وهذه الوثيقة ترتبط في الزمان والمكان ارتباطاً وثيقاً بـ ( عرب حمولة الرشيد ) الوارد ذكرهم في رحلة (أوليا جلبي) ؛ لأنه لم يرد في السجلات التاريخية التي أطلعنا عليها عن أهل هذه المنطقة ما يشير إلى توافق اسم بني رشيد القبيلة الحاضرة مع غيرهم في هذه الجهة من الحجاز ، وعليه فإنهم هم المعنيون فيما تقدم ذكره في الرحلة الحجازية.
3-تحدث أوبنهايم عن الرشايدة في ( عين الجدي ) في فلسطين ، وعدّهم من القبائل القيسية ، وأن صيحة الحرب عندهم هي : ( صبيان عبس ) ، ومثلهم في كل شيء كمثل الرشايدة في نجد والحجاز(14) ، وقد ذكرهم في هذا الاسم والمكان "سيتزن" عام 1806م ، وأبعد من هذا التاريخ لجوء مجموعة من
عشائر الصقور إليهم في حدود 1750م. أي في القرن الثاني عشر للهجرة (15).
4-أفرد المؤرخ محمد البسام : ( من أهل القرن الثاني والثالث عشر الهجري ) ذكراً لذوي رشيد في موضعين : الأول : في تهامة(16) ، وهؤلاء كانوا يتواجدون جنوب ( جدة ) بضواحي ( الليث ) و ( القنفذه ) ، وقوامهم أنذاك ( البراعصة ) الذين هاجروا لاحقاً من جهات جدة (17)، وهم اليوم من أهم قبائل بني رشيد في شرق السودان . والثاني : في الحجاز(18) ، وجاء ذكرهم بعد قبيلة بلي وقبل قبيلة ولد سليمان من عنزه ، وفي ذلك دلالة قاطعة على أنهم هم قبيلة بني رشيد الحاضرة ، ويقوي هذا الدليل ما ذكره إحدى المنتسبين إليها لـ ( دواتي ) عام 1878م (19) ، بأنهم يعرفون بنجد باسم بني رشيد ، وذكرهم بمثل هذا أيوب صبري باشا عام 1289هـ(20) ، ومحمد لبيب البتنوني عام 1327هـ(21) والشيخ العبيّد 1377هـ (22).
1-حفلت كتُب المؤرخين السودانيين بذكر قبيلة الرشايدة في شرق السودان منذ منتصف القرن التاسع عشر للميلاد (23) ، وينقل الدكتور : يوسف فضل حسن عن نسّابة القبيلة أنهم منحدرون من ( رشيد الزول ) (24) ، ومثل هذا ينقل عنهم الدكتور : وليام يانج (25) ، والشيء نفسه يقال في قبيلة بني رشيد في نجد والحجاز(26) .
ما سبق تاريخ لا جدال فيه ، وابعاده تصل إلى القرن الحادي عشر للهجرة ، غير أن هذا البعد التاريخي يضيف إلى هويتهم المعاصرة بعداً آخر أقدم حقبة من الزمن ، فعلماء النسب يجمعون – بحق – على أن سلالة الرجل الواحد
لا يمكن أن تمثل بطناً أو فرعاً قبل أن يمضي على نشأتها ثلاثمائة عام على الأقل، ناهيك عن أن تمثل قبيلة ، وعليه يتضح مما تقدم من الشواهد والقرائن التاريخية ، أن هذا السلف الكبير ( رشيد ) كان من أهل القرن الثامن الهجري وأن أسماء القبائل السابق ذكرها سواء أكانت باسم : ( حمولة الرشيد ، أم الرشيدي ، أم ذوي رشيد ، أم الرشايدة ) ما هي إلا أسماء لمسمى واحد ، بدليل اتحادها في الاسم واللقب معاً ، والشيء نفسه يقال في قبائل بني رشيد في كل من : السعودية ، والكويت ، ودول الخليج ، والسودان ، وإريتريا ، ومصر ، وليبيا ، والشام وغيرها .
وعند هذا الحد نتوقف عن تسليط الأضواء على البعد التاريخي للهوية المعاصرة لهذه القبائل أعلاه ، ولنا أن نقول لمن قال أن تسمية هذا المجتمع المتعدد القبائل باسم بني رشيد أو الرشايدة كانت تسمية حديثة لا يتجاوزُ حدها الأقصى استقلال دولة الكويت، تزامناً مع شيوع شهرة إحدى أطرافها في ذلك البلد – نقول : كفى عبثاً وتطاولاً بخلاف الحق .
هذا عن الهوية المعاصرة، فماذا عن جذورهم التاريخية؟
لاشك في أن الحديث عن الجذور التاريخية لقبائل بني رشيد هو الآخر أيضاً يعتوره من انقطاع الصلة بين هذه القبائل وقدماء أسلافهم منذ زمن بعيد ما يعتور قبائل العصر ككل على نحو مماثل ، والواقع أن ثورة الأبحاث في علم النسب في العصر الحديث قد أهدت إلى أهل الأنساب بوجه عام مفاتيح العلم لمعرفة الشيء الكثير عن أصولهم التاريخية ، فاستُبدل ظلام الجهل بنور العلم وكان من أثر ذلك أن عدداً كبيراً من الأبحاث التي تعني بعلم النسب قد قالت كلمتَها في نسبة قبائل بني رشيد إلى قبيلة عبس من غطفان من قيس عيلان ، إلا أن هذا النسب لا يزال مثار جدل بين الباحثين.
والسبب أن هذه القبائل كانت تقاطع باسم لقب من ألقاب الفسق كان في الأصل نسباً أصيلاً وعريقاً في بني عامر بن صعصعة من هوازن ، وقد ذكره في بني عامر بن صعصعة غير واحد من المؤرخين منهم : الإمام أبو علي الهجري(27) والآمدي (28)، وأبو عبيدة(29) ، والعالم الجليل السخاوي (30) ، ثم تحول فيما بعد القرن الخامس من الهجرة من أصل أصيل إلى لقب يستخدم للمقاطعة الاجتماعية، وقد طالت ناره قبائل شتى ؛ جلّها قبائل قيس عيلان ، ومن بينها عبس ، وهي أصل النسب لقبائل بني رشيد ، وعبس هذه ذكرها أيضاً غير واحد من المؤرخين بهذا اللقب ؛ منهم : بركاردت(31) ، وموري(32) ، وأوبنهايم(33) ، وعبدالسلام الدرعي(34) ، وأيوب صبري باشا(35) ، والبتنوني(36) ، والعبيّد (37)، وغيرهم مما يجهر بوجاهة القول أن لنسب قبائل بني رشيد إلى عبس أصلاً من الصح ولم تأتِ من فراغ أبداً ، وعندي أن فروعاً من غطفان ، وبني عقيل بن عامر بن صعصعه ، وغيرهم قد مازجتهم ، وهم ما يعرف اليوم بقبائل بني رشيد.
وقد يسأل سائل ويقول : هل تداخل بعض الفروع من غطفان وبني عامر وغيرهم في بني رشيد يضعّف انتساب هذه القبائل إلى عبس ؟ والجواب : كلاّ فإن من عادة العرب إذا علت شهرة الفرع شهرة القبيلة فمن المألوف جداً أن
يدفع ذلك فروع القبيلة إلى الانتساب لذلك الفرع، مثل : انتساب فروع قبيلة طيء إلى شمّر(38) ، وخثعم إلى شهران(39) ، وبجيلة إلى بني مالك (40)، وكذلك إذا تفكك كيان القبيلة لأي سبب كان فإن بعض فروعها ينتسب إلى من له معه صلة بالأب الأبعد مثل : انتساب وائل إلى عنزه وعنزه إلى وائل (41) ، وفي الأمثلة مزيد ، ونسبُ قبائل بني رشيد يقدم لنا شكلاً من أشكال هذه الأنساب .
وبالإجمال فإن النظرة التاريخية في وحدة النسب لأية قبيلة سواء أكانت باسم قديم أم حديث لا تختلف قيد أنملة عن صورة الأنساب التي ضربنا الأمثلة فيها أعلاه ، وتؤكد أن الوحدة الاجتماعية قائم كيانها على صلة القرابة أكثر من أي شيء آخر ، وإن من أقوى الروابط التي تصون وحدة الجماعة من الوهن والضعف هو الشعور بوحدة النسب ، فأي حديث في اختلاف أصول فروع القبيلة يقود حتماً إلى التفرق والتمزق ثم إلى الزوال .
ولذلك ينبغي للجميع الابتعاد عن الخوض في مثل هذا الحديث حتى لو صح شيء منه ، صوناً لوحدتهم الاجتماعية من التآكل والاندثار.
ومما لابُدَّ من الإشارة إليه في هذا السياق هو أن علم الجينات الوراثية
( DNA ) قد أظهر وفقاً لنتائج تحاليل مجموعة أفراد من قبائل بني رشيد ، ومن فروع مختلفة في أكثر من بلد من البلدان العربية – أنهم جميعاً من أصل جيني واحد يعود إلى أصل قيسي ، وهذا العلم هو الذي بوسعه أن يقطع قول كل خطيب في معرفة الأصل لأي جماعة من الناس ، بطريقة علمية لا مجال لباب الاجتهاد فيها ، فلندع الحديث في هذا الموضوع لأهل الاختصاص ، فهم الأجدر في إيضاح بيانه منا .
ونخلص إلى القول بان الجذور التاريخية لقبائل بني رشيد تعود إلى أصول قيسية عدنانية صحيحه ومن أعراق كريمة المنبت والأصل ، هذا ما في محفظتي في هذا المجال ، وفوق كل ذي علم عليم.
عطاالله ضيف الله الرشيدي