موقع الشاعرغازي البراك موقع الجميع - عرض مشاركة واحدة - براءة الطفولة في طيّ النسيان
عرض مشاركة واحدة
 
قديم 10-19-2011, 12:02 AM   رقم المشاركة : 1
شاعر
 
الصورة الرمزية أبوحنان الشمري





الحالة
أبوحنان الشمري غير متواجد حالياً

أبوحنان الشمري is on a distinguished road


 

Smile براءة الطفولة في طيّ النسيان


قديماً قالوا:
الطفل فيلسوف صغير. ذلك أن الطفل يجمع في سماته التكوينية والمعرفية والنفسية صفة الاندهاش، الاندهاش من كل شيء، من كل ما يحيط به.. وما الفلسفة إلا حالة من الدهشة تعتري الفيلسوف ليبحث من خلالها عن الأجوبة التي أثارتها حالة الاندهاش مما يحيط به.. إن هذه المقولة تحمل في ثناياها مفهوماً مبسطاً عن براءة الطفل.
فحين نادى "جان جاك روسو" في كتابه الشهير "إيميل" بضرورة العودة إلى الطبيعة في تربية الأطفال، أحدث ثورة كوبرنيكية في ميدان التربية في القرن الثامن عشر. وقد نادى بضرورة ترك الطفل على طبيعته وتلقائيته، وبأن كل ما جاء من الخالق فهو خيّر، فإذا مسته يد الإنسان أصبح شريراً. وتوالت النظريات التربوية من بعده لتؤكد على أن الطفل كائن خيّر، خصوصاً على يد "فروبل" الذي أكد على الطبيعة الخيرة للطفل.
فبراءة الطفولة تعني أن هذا الطفل ما زال غير ملوّث بشرور البالغين وبتناقضاتهم وتعقيدات شخصياتهم المركبة.. هو ما زال بعد صفحة بيضاء ناصعة وعفوية.
إن عملية التنشئة الاجتماعية هي التي تنقل الطفل من حالته العفوية تلك إلى حالة التقيد بالأنماط الاجتماعية، والتعليمات المشددة، وتأطير شخصيته في قوالب اجتماعية تفرضها مؤسسات التنشئة بدءاً بالأسرة ومروراً بالمدرسة ووسائل الإعلام وانتهاء بمؤسسات العمل، لتعمل مجتمعة على تشويه أبنيته المعرفية بادعاء الحرص على نقل التراث الثقافي من الأجيال السابقة نحو الأجيال اللاحقة، فتدخل العادات والتقاليد ومعايير الضبط الاجتماعي وثقافة العيب في بنيته المعرفية والثقافية لتحد من عفويته.. بل وتقتلها.
يشدد علماء النفس على أن الطلاقة والمرونة هي أساس الإبداع عند الفرد، وأن طلاقة الطفل في أفكاره وفي تداعياته التصورية وفي طلاقته التعبيرية عما يدور في خلده هي شروط لتحقيق الإبداع والسعادة والصحة النفسية عند الطفل، أما قتل عفويته فهي طامة كبرى تؤثر سلباً على اتجاهات الطفل وعلى مقدرته على التكيف مع البيئة الطبيعية والاجتماعية المحيطة به.
إننا جميعاً مسؤولون عن تحقيق براءة الطفل وديمومتها واستمرارها، مع أن طفلنا العربي محكوم عليه بإعدام براءته وعفويته منذ اللحظة الأولى من ولادته وحتى انتهاء فترة طفولته. فالأم تعمد إلى ربط طفلها الوليد بالقماط، ذلك القماط المسؤول عن كثير من الاضطرابات النفسية التي ترافق الفرد طيلة حياته، فهي بتقميط طفلها تحد من حريته وتجعله في قالب جامد، وإن صرخ الطفل صرخاته الأولى فإنها تعمد إلى إلى محاولة إسكاته رغماً عن أنفه، متجاهلة أن هذا الصراخ مفيد في تنمية مهاراته اللغوية وفي تدريبه على صقل أوتاره الصوتية، وهي لا تدري في الوقت نفسه أن الحبسة الكلامية والتأتأة وكثير من اضطرابات النطق عند الإنسان مردها إلى هذا السلوك الخاطئ من قبلها. وإذا أرادت فطامه فإنها لن تنسَ الصبرة المرة أو العلقم الذي تضعه على ثديها لكي يعاف الرضاعة، وإذا لعب أو تحرك أو تكلم أسكتته الأيادي من حوله بالصفع أو بضرورة التأدب لتسكن حركته، وإذا تحدث مع الكبار فإن كلمة عيب هي الطاغية على الموقف.. هذه الأمثلة، وغيرها المئات هي المسؤولة عن قتل عفوية الطفل وبراءته.
ناهيك عن ما يمارس ضد طفلنا العربي المسكين من أنواع الإساءة والضرب والشتم والعنف، ومن استغلاله في العمالة والتشغيل التي وصلت في بعض البلدان العربية إلى نسبة 39% من مجموع القوى العاملة، ومن استغلاله جنسياً بل ومن تعرضه للاغتصاب، ومن استغلاله في الحروب والنزاعات، وقد يكون هو بحد ذاته ضحية من ضحايا تلك الحروب. مسكين ذلك الطفل العربي الذي أصبح يشاهد صباح مساء على شاشات التلفاز جميع أشكال القتل وألوان الدماء والدمار، ومسكين ذلك الطفل العربي الذي تمارس عليه جميع أنواع القيود والتخويف في البيت وفي المدرسة وفي المجتمع.
وبحسب الاتجاه الاجتماعي في علم النفس التربوي، فإن الطفل سريع التعلم بالمشاهدة، وأنه يحاول تقليد ما يراه وما يسمعه وما يمارس معه.. وهذا يعني أن هذه الممارسات قد تخلق طفلاً منحرفاً سلوكاً وأخلاقاً، وأنه سينقل ما تعلمه وما شاهده إلى مواقف حياتية ممارسة.
إن هذه الأسباب وغيرها، تدفعنا إلى عدم التفاؤل في مستقبل استمرار براءة الطفولة في عالمنا، فبراءة الطفولة صفحة سيطويها التاريخ إن لم نعمل معاً على تغيير واقع الطفل.. وأخشى أن يأتي اليوم الذي نقول فيه رحم الله يوماً كان فيه الطفل بريئاً.
بقلم
د. محمد عوض الترتوري






من مواضيع في المنتدى

التوقيع :

القلم .. أمانة

رد مع اقتباس