الموضوعية هي ذلك الكنز النفيس والمعنى العزيز- ولكن:-
--------------------------------
في الموضوعية يرغب كل شخص، ولها يرمي بسمعه إلى كل متحدث عنها، يدعوه إليها الشوق، يرغبها العقل ويحدوه اليها الوله، يسغي المرء لحديث الخائضين فيها، ويستجمع قواه لهم، تحدوه إلى ذلك محبة الإنصاف، وتُزعجه موانع الانتصاف، يرغب في تفشي هكذا ثقافة، ويأمل وويرجو ذيوع هكذا مبادئ.
ما زلنا نسمع عن موضوعية الباحث وحياده، وكنا تلقينا هذا طلابا، ودرسناه أساتذة، وما برحنا نعيده بلا ملل، ونسترجعه بلا كلل، ولو كان التكرار مع تحديات الواقع ينفع لكنا أكثر الناس موضوعية، وأقربهم إليها نسباً، وأبعدهم فيها غَوْرا، ولو كان الحديث يحل معضلا، والكلام يُبرئُ سَقَما، ما وقعنا على شيء من هذا وذاك في بيئتنا، ولا رأته عيوننا؛ لكنّ أعظم الداء في كل أمر، ندعو إليه ونشجع الناس عليه، يُوجزه لنا قول الحق: (يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون) تنفتح شهيتنا حين الكلام عن الموضوعية وأهميتها، فإذا ما تطلع المرء إلى تنزيل ذلك على وقائع الماضي والحاضر وجماعاتهما وأفرادهما، أصابت اللسانَ حبسةٌ، والعقلَ لوثةٌ، تلك حالنا تقريبا مع الموضوعية كلما هممنا أن نستأنف الطريق الذي به حياتنا وحياتها واجهتنا الغُول الثقافية، ووقفت في دربنا النوازع التقليدية والمصالح والمأرب والاهواء الشخصيه.
احيانا نتخِيل أنّ الحائل الوحيد دون تطبيق الموضوعية هو النفس وهواها، فذلك هو المعنى الذي جدّ الملقنون في إيصاله إلينا، إنّ خلاصة أحاديثهم معنا في مادة البحث أنّ المرء تعوقه عن الموضوعية ميوله الشخصية، وأهواؤه البشرية، فبلاؤه من نفسه دوما وأبدا، ولن يفلح كما يقولون باحث يأتم بها وبنزعاتها، كذلك كانوا يريدون منا، أن نحارب دواخلنا، ونقف في طريق استبدادها بعقولنا وتوجهاتنا، كانوا يظنون أنّ أعظم بلاءٍ للمرء من نفسه، فمنها تتسلل إليه الصوارف عن بغاء الحق وطلبه، لكني أفقت بعد حين وأدركت أنّ نفسي لم تكن سوى حارس لنفس الثقافة، إن كان للثقافة نفس، لقد أدركت أنّ نفسي ليست سوى عجلةٍ في قطار كبير، هو الذي يدفع بي هنا وهناك، لقد أدركت أن ضرر نفسي من نفسي يسير، وليس يُشاكل في حال من الأحوال ضرر الثقافة وما فيها علي، آمنت بهذا بعد حين من الدهر، وازددت إيمانا أنّ موضوعيتي وحرية كلمتي بوابتها الرئيسة موضوعية الثقافة وحريتها، فهل نتشجع ونعالج أقفال الثقافة، وندرس مغاليقها على الأذهان، هل تتسع صدورنا لإخواننا، وتحسن الظن بإخواننا نفوسنا؛ لينشأ الناشئ منا في ظل الموضوعية الوارف، فيتشربها من واقعه وحياته قبل أن يسمعها من هذا وذاك، إنّ من العسير عليك مهما بلغت دهاء وحكمة أنْ تؤصل الموضوعيةَ وتغرسها في قوم، يواجهون غيرها من اضدادها في مرافق الحياة وزوايا الواقع، فالواقع ومواقف الحياة أشد تأثيرا على الإنسان وعقله من ناصح بلسانه، ومتحدث بقلمه.
إنّ كل إنسان يعيش داخل مجموعة من الشباك، إذا ما تخلّص من واحدة، واجهته أخرى، هكذا يعيش الإنسان حياته (لقد خلقنا الإنسان في كبد) يكابد في استقامة معاشه، واستصلاح وعيه، كان يظنّ غاية الموضوعية أن يتجرد من ميوله الشخصية، ففوجئ أنّ الميول كثيرة، فهو يميل أيضا إلى اهتمامه، ويجنح إلى تخصصه، ويقف مع مذهبه، ويناصر مجتمعه، وقبل هذا وذاك يصطف مع أهله وعشيرته، هكذا الحال بالإنسان، فداخل بيت الثقافة غرف كثيرة، وإذا كان للثقافة الأم خطوط حمراء، فلكل غرفة خطوطها، حقا إنّ كبد الإنسان في استصلاح وعيه أشد وأنكى، ولعله من أول الأشياء التي ترمي إليها الآية القرآنية بلفظها ومعناها.
إنّ لكل شبكة وغرفة تقاليد وأعرافا وأنظمة وتراتيب، ينشأ الإنسان فيها مطالبا أنْ يجري وفقها، ولا يُغادر سبيلها، يجتمع عليه بسببها من كل حدب التقليدُ، إنها سبلٌ مطروقة، ومسالك مألوفة، لم يعد من حق الإنسان أنْ يتساءل حولها، ويُعيد النظر فيها، سبلٌ كانت يوما ما اختيارا، فأضحت للخالفين إلزاما وإرغاما، ليتنا كنا في مستأنف الدهر حتى نسن الدرب، ونشرع الطرائق، وإذا لم نحظ بهذا فلا أقلّ من أن ننظر إليه كما كان أهل عصره ينظرون إليه.
عدوان لدودان، الموضوعية والتقليد، يعيش الإنسان في مدّ وجزر معهما، إن غلبت عليه الأولى عاش عصره، وصنع الذكريات للأجيال بعده، وإن تمكّن منه الثاني، استعاد الذكريات، وقطن مساكن الماضين.
كيف يضحي العقل موضوعيا، وهو مدجج بقناعات، إنْ لم يُصب بها الآخرين، رماه بها الواقفون في ظلال الحياة؟ كيف يشتري المرء الموضوعية، والسوق تُروّج لغيرها، وتقاوم ذكرها؟ كيف يرتدي الموضوعية من ألبسته الثقافة جلابيب المحاكاة؟ وزكّت فيه روح الممشاة؟ ثم كيف يبدع مجتمع تغيب فيه الموضوعية؟ بل كيف يتدين لله تعالى حقا مجتمع فقد حرية التفكر والتبصر في ملكوت الله تعالى ؟ ما ذا تعني لنا دعوة الله لنا إلى التفكر والتبصر والتأمل؟ أليس المراد منها هو تلك النتائج المترتبة على التأمل والتفكر والتبصر؟ إنّ الدعوة إلى النظر والاستبصار في القرآن دعوة إلى تحرر الذهن من قيود اللحظات التأريخية؟
أيها الأخوة الأعزاء أتساءل، والسؤال لغز الحياة العجيب، كيف نتسم بالموضوعية، وتتسم بها ثقافتنا، ونحن نقر على أنفسنا منذ دهور بأنّنا أمة مقلدة، كيف يجتمع في العقل تقليد وموضوعية؟ لا أظن في مقدور عقل أن يجتال في ميدان الموضوعية، ومن حوله ينصحونه ويشيرون عليه بالتقليد، والجري وراء السابق! وكل ذلك يدفع بنا إلى الاعتراف الواضح، والمصارحة النقية، فإما أن نجتث التقليد من حياتنا، ونرضى بما يقودنا إليه عدمه، وإما أن نبقى سجناء له، فلا نطالب الناس بما لا تُعينهم عليه ثقافاتهم، ويساعدهم عليه واقعهم، تعلمنا أن نكون أمناء، ومن الأمانة ألا نختط ميدانا للناس، ثم نملأه بالحفر، إنْ أخطأ المرء هذه، غالته تلك، دربان ما لنا إلى غيرهما من سبيل، موضوعية تقودها حرية التفكير، أو عبودية يقودها التقليد، موضوعية تُوقظنا، وعبودية نعيش بقية أعمارنا في أحلامها الوردية!، موضوعية تزيد عقولنا اتساعا، وعبودية تزيدها ضيقا وحرجا وحتى نحزم امرنا فسنبقى كما نحن والى حيث ماوصلنا ، خطوة الى الأمام واخرى الى الخلف والنتيجة في مكانك راوح ثم قف.