موقع الشاعرغازي البراك موقع الجميع - عرض مشاركة واحدة - اقدام تنتعل السراب
عرض مشاركة واحدة
 
قديم 05-17-2010, 12:14 PM   رقم المشاركة : 3
مسـتــشار الـمـوقـع
 
الصورة الرمزية ابوعبدالمجيد1





الحالة
ابوعبدالمجيد1 غير متواجد حالياً

ابوعبدالمجيد1 is on a distinguished road

كبار الشخصيات وسام الاداره 


 

افتراضي رد: اقدام تنتعل السراب

يتبــــــــــــــــــــع ما قبله
وحين فتحت البوابة الرئيسية للشركة لاستقبال طالبي التوظيف تدافع الناس خلالها ومشوا متفرقين بشكل فوضوي ملفت للنظر مسافة (ثلاثمائة متر) للداخل حتى توقفوا أمام منصة واسعة مربعة الشكل مصنوعة ومبنية بعناية فائقة من خشب مصقول لامع بلون بني وترتفع قرابة (نصف متر) عن الأرض، ولها قواعد حديدية مغروسة في الأرض.
وينتظم على كل ضلع من هذه المنصة درج خشبي صغير يمتد بثبات من سطحها حتى يرتكز على الأرض باستواء.
وثمة منظر آخر يروق لعيون هؤلاء البدو البسطاء أن تراه ألا وهو تلك الكراسي الخشبية ذات المساند والأذرع الأسفنجية المكسوة بقماش رقيق مزخرف بألوان جميلة هادئة من درجات اللون البني.
وأمام هذه الكراسي المنتظمة إلى بعضها بشكل صفوف عرضية وعلى مسافة (ثلاثة أمتار) من الصف الأول فيها توجد طاولة خشبية عريضة بأربع قوائم غطي سطحها بقماش بني لامع تتدلى نهاياته حتى تكاد تلامس أرضية المنصة.
وعلى الحافة الأمامية منها وضعت أربع مقالم فضية وأوراق بيضاء وأختام خشبية مطلية بلون ذهبي و(كرتونات) صغيرة يبدو أنها تحتوي بداخلها على أحبار أو (اسْطَمْبات).
وخلف هذه الطاولة وضعت أربعة كراسي خشبية أكثر فخامة بقماشها وتصميمها من تلك الموجودة أمامها فصلت فيما بينها مسافات متساوية.
وأمام هذه المنصة الخشبية ـ بكاملها وعلى مسافة تقارب العشرة أمتار منها ـ توجد ثلاث غرف متراصة مبنية على طراز (البيوت الجاهزة) لها جدران من خشب (البليود) المصقول وأبواب ونوافذ من (الألمنيوم) وأسقف من (القرميد الأحمر) تحيط به شتلات صغيرة من أشجار الزينة لاتزال في طور نموها الأول.
كان (الحراس المنتظرون) للشركة أثناء ذلك كله يوزعون نظراتهم وابتساماتهم الحالمة بشغف وإعجاب بما يرونه من مرافق الشركة الفخمة ومناظرها المرتبة المنظمة منتظرين مقابلة المدير ومساعديه وخروجهم من تلك الغرف الموجودة بينهم وبين المنصة.
وهنا كثرت الوشوشات والهمسات والإشارات بين الحراس الجدد المنتظرين للشركة حيث بدأوا يتجمعون فيما بينهم على انفراد يشيرون بأصابعهم وأيديهم ورؤوسهم إلى مرافق الشركة الفخمة التي لم يسبق لعيونهم أن رأت أجمل منها في نظافتها ونظامها وترتيبها.
كيف لا وهم (بدو الشمال) الذين لا يعرفون من معالم الرفاهية والرقي ـ في صحرائهم الجرداء ـ أكثر من (سوق شمالات) ولا يعرفون من المساكن سوى (بيوت الشعر) وكهوف (وادي الضواري) ومغاراته وأشجاره؟!
وهناك في الساحة المركزية لموقع الشركة مبنى كبير ذو نوافذ زجاجية وبوابة كبيرة ترتكز على حافتها العليا (لافتة) كتبت عليها حروف سميكة باللغتين (الانجليزية) و (الكورية).
ويتعاقب على ارتياد هذا المبنى عدد من العمال (الكوريين) الداخلين والخارجين وهم ينظفون أفواههم وأيديهم بمحارم ومناديل ورقية بما يوحي أنه مبنى المطعم الرئيسي للشركة.
وعلى يمين المطعم بمسافة تبعد عنه حوالى (ثمانين متراً) يوجد مبنى آخر أكبر من سابقه مساحة وفخامة محاط بسياج حديدي شائك وتنتظم بمحاذاته وعلى طوله (شتلات) ذات ألوان زاهية من أشجار الزينة، وله أكثر من بوابة يبدو أنه سكن العمال بدليل وجود بعض العمال في غرفهم التي شرعوا نوافذها وأبوابها للتهوية بملابسهم الداخلية القصيرة بعد أن خلعوا عن ظهورهم الملابس الرسمية للشركة لدى انتهاء بعضهم من فترات المناوبة في العمل.
وعلى يسار المطعم وعلى مسافة تبعد عنه بحوالى (مئة متر) مساحة كبيرة مربعة من الأرض مزروعة ومغطاة بكاملها بنبات (الثيِّل) القصير، ويوجد على إحدى حوافها عدد من الغرف المتجاورة الصغيرة لتبديل الملابس وعدد من الكراسي البلاستيكية والطاولات والأعمدة الكهربائية ذات الشمعات الكبيرة لتكون هذه المساحة ملعبا أو ناديا رياضيا يمارس فيه العمال خلال أوقات فراغهم بعض أنواع الرياضات المحببة لديهم مثل الكرة و(الجمباز) و(الكاراتيه).
ووراء هذا الملعب شاحنات وسيارات نقل صغيرة وتراكتورات عادية ومجنزرة ورافعات شوكية تتوقف داخل وخارج مبنى كبير مسقوف بـ (الزنك) و(الفايبر) وله بوابات كبيرة يتم فتحها وإغلاقها آليا، يبدو من مظهر هذا المبنى أنه مبنى (التشغيل والصيانة).
وبجوار البوابة الرئيسية مباشرة وعلى مسافة تقارب (ثلاثمائة متر) من مبنى الإدارة يوجد مكتب مكون من غرفتين صغيرتين متجاورتين تقعان على تلة ترتفع بعض الشيء عن بقية معالم الشركة ومرافقها تتوقف أمامها عدد من سيارات الشركة، وفيهما عمال يرتدون الزي الرسمي للشركة ويحملون بأيديهم هراوات وأجهزة (لاسلكية) بما لا يدع مجالا للشك فى أنهم (فرقة أمن الشركة).
وعلى أقصى اليمين للداخل من البوابة الرئيسية وبعد سكن العمال بمسافة لا تقل عن (كيلومتر) واحد توجد (مكائن) ضخمة تعمل بالديزل لتوليد الطاقة الكهربائية تمتد منها (كابلات) لتزويد جميع مرافق الشركة بهذه الخدمة.
هذا بالإضافة إلى وجود (مستوصف طبي) صغير على الشارع الرئيسي للشركة تتوقف أمام مبناه المكون من غرفتين متجاورتين سيارة إسعاف دمغ على أحد أبوابها علامة (الهلال الأحمر) وإلى جانب هذا المستوصف غرفة أخرى منفصلة يدل منظرها على أنها (صالون حلاقة).
ويحيط بهذه المعالم كلها هناك على مرمى النظر سياج حديدي شائك بارتفاع يقارب (متراً ونصف المتر) يمتد بشكل شبه دائري نصف قطره لا يقل عن (ألف وخمسمائة متر) حفرت على مقربة من أحد أركانه بئر (ارتوازية) لضخ المياه وتتوقف عندها عدد من سيارات الري ذات صهاريج كبيرة السعة.
وعلى مسافات متباعدة ومتساوية في أبعادها من هذا السياج الشبه دائري وبطوله البالغ (ثلاثة آلاف متر) توجد أربعة أبراج صغيرة للمراقبة والحراسة الليلية للشركة من الجهات الأربع وترتفع قرابة (المترين) عن مستوى هذا السياج ولها قواعد حديدية مغروسة في الأرض وجدران خشبية وأسقف من (الفايبر) وأبواب ونوافذ زجاجية.
كان ذلك كله يحدث على مرأى ومسمع من (الحراس المنتظرين) حين خرج المدير ومساعدوه إليهم من تلك الغرف الموجودة قبالتهم وهم يتأبطون بعض الأوراق والملفات.
وقبيل جلوسهم رفع الأستاذ (عبد الرحمن الحوذي) مدير المشروع يده ملوحاً بالتحية تبعه في ذلك مساعدوه وأشار إليهم بطريقة مهذبة للجلوس إلى تلك الكراسي المنتظمة أمامه ثم جلس في حين اتخذ كل من مساعديه الثلاثة مقاعدهم إلى يساره.
ولم يكلف بعض الحراس المنتظرين أنفسهم عناء الصعود إلى المنصة عبر الدرج وإنما تقافزوا بشكل مثير للضحك من الأرض إلى سطح المنصة مباشرة.
ولما اتخذ كل منهم مقعده تحدث (الحوذي) للجميع بصوت مسموع عن الشركة وأهدافها في المنطقة ونظامها (الداخلي) بشكل عام، ثم تطرق بحديثه لنظام التوظيف والتعاقد وبنوده وشروطه مركزاً على هذه النقاط بشكل خاص.
وبعد هذه المقدمة الموجزة عن الشركة وأهدافها التفت إلى يساره وعرف بمساعديه للموجودين أمامه قائلا بلطف متكلف:
ـ هذا مساعدي المهندس (مصطفى الهيري) مصري الجنسية وإلى يساره الأستاذ (حسن أرسلان) سعودي الجنسية وهو سكرتير مكتب إدارة المشروع.
ثم توقف لثوان معدودة أشار بعدها إلى رجل كهل خفيف الصلع ممتلئ الجسم، يرتدي (بذلة) إفرنجية بربطة عنق ذات لون زاه قائلاً:
ـ وآخر واحد إلى يساري هو المستر (شين) مدير فرقة الأمن في الشركة وهو (كوري) الجنسية.
ثم ابتسم نصف ابتسامة وهو يتوقف عند التعريف بالمستر (شين) لبضع ثوان حيث قال بعدها مستدركاً:
ـ لكن.. لا تخافوا..!! فالمستر (شين) يجيد التفاهم باللغة العربية على نحو لا بأس به على الرغم من كون لغته الأصلية هي (الكورية) كما هو معروف بالإضافة إلى إجادته البالغة للغة (الانجليزية) تحدثاً وكتابة.
وابتسم (الحوذي) هذه المرة ابتسامة أكثر اتساعاً حين قال بروح مرحة:
ـ وللمعلومية أيضا فإن المستر (شين) يجيد فن (الكونغ فو) و(الكاراتيه).
وبرزت أسنان المستر (شين) بطريقة هي أقرب للتكشير منها للضحك لكن ما لطفها على نحو مضحك هو تلك الهمهمات التي أطلقها كل من (الهيري) و(أرسلان) الجالسين بين المستر (شين) و(الحوذي) بينما ظلت كلمتا (الكونغ فو) و(الكاراتيه) كلاماً غير واضح الدلالة بالنسبة للحراس المنتظرين.
ومع أن كلام (الحوذي) لم يكن كله واضحاً لبعضهم إلا أنه حاول إيصال المعلومات المطلوبة لهؤلاء البدو البسطاء بأسلوب لا بأس به وبلغة مبسطة استطاع من خلالها أن ينزل لمستواهم الاجتماعي البسيط وأن يخاطبهم على قدر إدراكهم الحسي والعقلي وذلك لما له من خبرة طويلة في العمل في مجال المواصلات تمتد نحو عشرين عاما أدار خلالها عدة مشاريع لشق الطرق وسفلتتها مما كان له الأثر الإيجابي في صقل مهارته الإدارية في التعامل مع البدو الذين تخترق مشاريع الطرق ديارهم.
واختتم (الحوذي) لقاءه بالحراس المنتظرين للشركة بالضغط على زر كهربائي متصل بأحد الأسلاك حيث أقبل إليه بعد لحظات عامل (كوري) يرتدي (بالطو) أبيض، ويعتمر قبعة بيضاء مضلعة استدار للحوذي من خلفه وهمس الأخير في أذنه ثم انصرف.
وبعد دقائق عاد ذلك العامل بعربة صغيرة يجرها وراءه برفقة عامل آخر حتى توقف بها على المنصة ثم كشف عن محتواها (القصدير) الرقيق المغطي لها. وكانت هذه العربة محملة بأنواع من عصائر الفواكه المتنوعة التي تم توزيعها على الموجودين.
وبدا على وجوه (الحراس المنتظرين) وهم يتناولون العصائر بأمزجة متفائلة علامات الرضا والارتياح للشركة والعاملين فيها مما شجعهم على الرغبة في اكتشاف المزيد من المعلومات الجديدة والمفاجآت السارة في مجتمعهم الجديد.
لمح الأستاذ (عبد الرحمن الحوذي) ذلك كله على وجوههم الشفافة ومن خلال ابتساماتهم المتفائلة ونظراتهم والتفاتاتهم الوديعة فأيقن أنه نجح في استئناس هذه الفئة المتوحشة من الناس بما يخدم المصلحة العامة التي جاء من أجلها إلى هذه الصحراء القاحلة.
وبعد دقائق معدودة من انتهاء (حفلة العصير) استأذن (الحوذي) من الموجودين بالانصراف وترك وراءه مساعديه الذين تولوا عملية تسجيل الحراس الجدد بعد أن اصطفوا على شكل صفوف طويلة منظمة أمام طاولة التسجيل حيث قام المساعدون بجرد أسمائهم وبياناتهم الشخصية في كشف واحد.
وعند انتهاء عملية التسجيل أعلن المهندس (مصطفى الهيري) للموجودين بصوت مسموع بأن عليهم مراجعة إدارة الشركة بعد ثلاثة أيام مصطحبين معهم بعض الصور الشخصية لمنحهم هوية منسوبي الشركة وتخصيص سكن لهم في المبنى الرئيسي لسكن العمال ومن ثم مراجعة المستر (شين) مدير مكتب الأمن ليتم تسليم كل حارس جديد عهدته من الأجهزة والأدوات الأمنية وملابس الزى الرسمي للشركة وتوقيع تعهد بذلك.

(9)
كانت عشيرة الجواعين برئاسة الشيخ (محسن) قد اتخذت منازلها الجديدة في الجهة الشرقية العليا من (وادي الضواري) حين عاد إليها كل من (حمود) و(ملحان) و(مطيع) ليقضوا بين أقاربهم يوما أو يومين قبل انضمامهم الفعلى لطاقم العمل في الشركة.
كان القمر بدراً هذه الليلة وكانت (شبة النار) في بيت الشيخ (محسن) حيث اجتمع القوم كعادتهم بعد صلاة المغرب مباشرة. وكان (متعب الفطين) قد اتخذ ركنا جانبيا من المجلس يقلب موجات (الراديو) باحثاً عن (إذاعة الرياض) وهو يلصق هذا الجهاز بإحدى أذنيه ويخفض صوته إلى الحد الأدنى.
كان يبدو منزعجا للتشويش الذي قد يكون ناجما عن ضعف (البطارية) على الرغم من كونه قد رفع (الهوائي) إلى الحد الأعلى في اتجاه رأسي.
أما (ابن ريحانة) فقد اتخذ مكانه المتطرف المعهود من المجلس على مقربة من مدخله المكشوف بزاوية مائلة على السماء بحيث يتسنى له أثناء جلوسه بين الحاضرين مراقبة النجوم والكواكب والأبراج باستمرار.
قال الشيخ (محسن) وهو يخلل شعر لحيته المغبر المهلهل بأصابعه النحيلة المتغضنة وهو ينظر لـ (حمود) و(ملحان) و(مطيع):
ـ (هاه).. يا (جماعة)!!.. كيف وجدتم الشركة؟
فأجابه (ملحان) باقتضاب بأن الأمور على ما يرام بينما راح (مطيع) يسرد على الحاضرين ما رآه في الشركة بثرثرة ممجوجة وأسلوب ممل وبجمل غير مترابطة.
فهو أحيانا يتحدث عن مباني الشركة الفخمة ومرة يتحدث عن الكرسي الذي جلس إليه حتى كاد ينام لجماله، ونعومة ملمس قماشه وأحياناً أخرى يحكي للحاضرين كيف أن طعم العصير الذي احتساه اليوم لازالت نكهته في فمه، وعلى لسانه لجودته ولذة طعمه حتى أن (أبا مصلح) رشقه بإحدى شتائمه الهامسة:
ـ عسى الشركة ومبانيها (تنهد) فوق رأسك يا (مطيع)!!.. بعت الغنم وجلست تشرب العصير على الكرسي.!!أما حمود فقد لزم الصمت ولم يعلق بشيء البتة. وهنا قال (ملحان) ببجاحة وخبث متعمد وكأنه يقصد استثارة حفيظة (منصور البو):
ـ حتى ماء الغدران الكدر و (البئار القديمة) ذات المياه الآسنة لم نعد بحاجتها، فالشركة لديها (بئر ارتوازية) تضخ مياهاً عذبة حلوة بغزارة تكفي الشركة و(أهل الشمال) كلهم لو أرادوا الاستقاء منها. وانتفض (منصور) وانتفخت أوداجه غضباً ثم قال بحنق واضح:
ـ بسيطة..!! بسيطة..!! لن أسكت لهذه الشركة الخسيسة التي مدت علامات الطريق لتتخطى بئر والدي..!!.. والله لن أسكت..!!.. سأقدم شكوى اعتراض للحكومة بذلك.
وضحك (حمود) و(ملحان) باستخفاف واضح للوضع الذي كان ولا يزال عليه حال (منصور) من الغيظ وتوتر الأعصاب ومنظره وهو يومئ برأسه ويعض رؤوس أنامله جزعاً مما زاده توتراً وعصبية أفقدته السيطرة على نفسه.
لكن الشيخ (محسن) سرعان ما استدرك الموقف قبل أن يتخذ الأمر مجرى يخرج المجلس من وقاره واحترامه حيث قال وهو يرمق (حموداً) و(ملحان) بنظرة عتاب ولوم:
ـ اتركوا عنا بعض الكلام الذي لا داعي له يا (جماعة)!!
ثم التفت إلى (منصور) قائلاً برفق وأناة وحكمة:
ـ افعل ما تشاء يا (منصور) ودعك من الناس فأنت أدرى بنفسك من غيرك.
وانصرف القوم للمسجد بعد أن أذن (عثمان الحنبلي) حيث أدوا صلاة العشاء.
ولدى فراغهم منها عادوا إلى بيت الشيخ (محسن) لاستئناف مسامرتهم باستثناء (حمود) الذي انسل من بينهم واستقل سيارته ليقوم بجولة يتنزه خلالها بين جنبات (وادي الضواري) في هذه الليلة المقمرة.
ربما أراد هذه الليلة أن يصطاد بعض الأرانب والطيور وربما فكر في أن يتوجه إلى (وضاح) ليطربه بعزفه الشجي على ربابته لكنه - بالتأكيد - لم يفكر أبدا في البحث عن ذئب (قاع ساق). وسمع وهو يقترب من الحافة الجنوبية السفلى للقاع عواء مبحوحاً تشوبه غصة مريرة تنبيء عن ألم مبرح.
وبعد دقائق رأى خيوطا ضوئية تتبعثر هناك في اتجاهات متفرقة زادتها أرضية (القاع) ولمعان القمر توهجا أيقن في نفسه أنها سيارة لأحد صيادي الليل ومقتنصي حيواناته ودوابه فصرف نظره عنها ولم يعرها اهتماماً.
لكنه انزعج حين سمع بعد لحظات دوي رصاصة بندقية (مجلجلاً) فيما حوله من جبال وصخور لابد أن تكون صادرة من صاحب تلك السيارة التي تجوب (القاع) من كافة جوانبه.
وانقطع الدوي وذلك العواء المرير وساد صمت يوحي بعلاقة يتصارع طرفاها على حياة أو موت.
... هل قتل ذئب (قاع ساق)؟ هل أصيب بجرح جديد؟..
... هل بلغت به (حماقة الذئاب) حداً جعله يستعطف الآخرين بعوائه المرير لإنقاذه من جرح غائر في خاصرته ظنا منه بأنهم سيكونون كـ (حمود) يصرفون عنه وعن جرائه فوهات بنادقهم ويشيعونه بنظرات الأسى والأسف، ويغضون أبصارهم عن جرحه الغائر حتى لا يخدشوا كبرياءه، أو يشعروه بنقص في وحشيته، وضراوته المكبلة بقيود الجرح والألم؟!
أو ربما ظن كذلك أنهم سيديرون له ظهورهم بعد أن يتركوا له ولجرائه ما في حوزتهم من لحم وخبز ولبن.
واستطاع (حمود) ـ أثناء قيادته لسيارته في الاتجاه المعاكس لموقع الحادث المخيف ـ أن يقاوم حزنه ويغالب قطرات حارقة من دموعه احمرت لها حدقتا عينيه.
واكتفى ببؤسه وحزنه حين تلثم بأطراف (شماغه) وكأنه لا يريد أن يرى أو يسمع شيئاً.
وفي الليلة التالية كانت (شبة النار) في بيت (منصور البو) حيث اجتمع (الجواعين) كعادتهم بعد صلاة المغرب مباشرة باستثناء (متعب الفطين) الذي جاء متأخرا على غير عادته هذه المرة.
كان (متعب) مبتهجاً جذلاً وهو يدخل المجلس بجهاز (الراديو) الذي يمسك مقبضه بإحدى يديه.
وبدون أن يسأله أحد من الحاضرين عن جذله وفرحه قال مخاطبا (منصوراً):
ـ أعطني (البشارة) يا منصور!! وستسمع ما يسرك!!
فقال (منصور) دون تردد:
ـ أبشر يا متعب!!
فقال متعب:
سمعت خبراً الليلة من (إذاعة الرياض) مفادة أن (الملك خالداً) حريص كل الحرص على أن تصل خدمات المواصلات والطرق لجميع مناطق المملكة العربية السعودية ليرتاح المواطنون وتتوفر لهم سهولة التنقل بين المدن والقرى.
وسكت (متعب) لحظات وكأنه يريد شد انتباه الحاضرين وشحذ فضولهم ثم قال:
ـ ليس هذا فحسب..!! وإنما تضمن الخبر أيضا كلاما عن مشروع طريق الشمال، وتعويضات من قبل الدولة للمواطنين من أصحاب الأملاك ممن تمر مشاريع الطرق المعبدة بممتلكاتهم من أراضى ومزارع وبيوت وما شابه ذلك.
واهتز (منصور) طربا لهذا الخبر المفاجئ السار، ثم قال باعتداد وتعجرف:
ـ أرأيتم يا (جماعة)؟!... ألم أقل لكم إنني لن أسكت أبداً؟!!.. هذه شكواي وصلت للدولة دون أن أقدم (معروضا) ولا (حاجة). واستغل (أبو مصلح) ضجة المجلس حيث قذف (منصوراً) بإحدى شتائمه الخافتة المعتادة:
ـ بئر والدك ميتة (ما فيها خير).. التعويض (أحسن لك) منها يا مسكين!!
وفي اليوم التالى تحرك (حمود) بسيارته برفقة (ملحان) و(مطيع) قاصدين الشركة وقد جلبوا معهم بعض ما يحتاجونه من ملابس وأحذية وغتر وأدوات شخصية لازمة.
وهناك أخذوا دورهم في الصفوف المنتظمة أمام مكتب إدارة الشركة الذي قام بإنهاء إجراءات قبولهم في الحراسة الليلية إذ استلم كل حارس بطاقة شخصية فيها اسمه وجنسيته وصورته ووظيفته التي يمارسها في الشركة بالإضافة إلى تسليمهم (كروتاً) خاصة بالسكن فيها رقم المبنى والغرفة.
بعد ذلك انتقل الحراس الجدد نحو مكتب الأمن حيث استقبلهم هناك المستر (شين) وطلب منهم أن ينظموا أنفسهم على شكل صفوف ليدخلوا إليه واحدا واحداً بحيث يتمكن من التعرف على الملامح الشخصية لكل واحد منهم، ويقارن بينها وبين الصورة الموجودة في الهوية الشخصية ومن ثم تسليمه عهدة الحراسة والتوقيع على استلامها بكشف خاص أعده لهذا الغرض.
وبدا على وجه المستر (شين) الامتعاض حين رأى بعضا من الحراس الجدد يقلبون أجهزة اللاسلكي بين أيديهم بما يوحي بأنهم لا يعرفون هذه الأجهزة، أو التعامل مع كيفية استخدامها. وهنا أطل من مكتبه واقفا على عتبته ثم أعلن بلغة عربية ركيكة:
ـ أظن الملابس (ما فيها مشكلة).. تعرفون ترتدونها وكذلك تعرفون استخدام الهراوة.
أما جهاز اللاسلكي (رح) يكون لنا لقاء في المنصة الموجودة أمام مكتب الإدارة بعد (الأصر) (عشان) اشرح لكم كيف تستخدمونه. وكانت فرصة مناسبة للحراس الجدد في أن ينصرفوا إلى مبنى السكن ليتعرف كل منهم على مكانه هناك إلى أن يحين موعدهم مع المستر (شين) بعد العصر كما قال لهم.
وهناك وجد الحراس أن سكنهم مخصص للحراس (السعوديين)وهو عبارة عن صالة كبيرة ذات سقف واحد لكنها مقسمة من الداخل بحواجز خشبية يرتفع الواحد منها عن أرضية الصالة قرابة المترين ولكل منها باب مستقل ونافذة واحدة وتحتوي كل وحدة سكنية منها على سرير ودولاب خشبيين.
أما دورات المياه فقد كانت عبارة عن مبنى صغير يقع خارج الصالة وعلى مقربة منها.
ومع أن الوحدات السكنية لا سقوف لها فهي مكشوفة من أعلى مباشرة على السقف الكبير الذي يغطي الصالة بكاملها مما يوحي باحتمال حدوث جلبة وضوضاء لتعالى أصوات بعض الحراس وضجيجهم أثناء دخولهم وخروجهم ليتحول هذا الضجيج إلى أصداء تصطدم في السقف الكبير الموحد للصالة لترتد مضاعفة إلى ما تحتها من وحدات إلا أنها ـ عموما ـ تبدو مريحة وفاخرة بالنسبة لبدو بسطاء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.
وبدا الحراس يتخبطون على غير هدى وهم يتجولون بين الوحدات المرقمة بأرقام (انجليزية) وعربية حيث لم يتمكن بعضهم من معرفة وحدته لولا (عناد السهو) أحد أبناء القبائل المجاورة للجواعين وأحد أفراد الحراس الجدد النادرين لإجادته القراءة والكتابة بشكل جيد إذ قام (عناد) متطوعا بتعريف كل حارس على وحدته السكنية مستخدماً (كروت) السكن الموجودة مع كل منهم والموضح فيها اسم الشخص ورقم وحدته. وقد جاءت وحدات (ملحان) و(حمود) و(مطيع) غير متجاورة إذ فصلت بينها وحدات يسكنها آخرون من الحراس الجدد.
لاحظ (حمود) ذلك وهو يتجول مع زملائه في الصالة ثم قال في نفسه:
ـ أحسن..!!.. ما من وراء (مطيع) و(ملحان) إلا الإزعاج وصداع الرأس.
وسر المستر (شين) حين بلغه ما قام به (عناد السهو) من تنظيم الحراس وتعريف كل منهم بوحدته مما جعله يحظى عنده بحظوة خاصة.
كان وقت الظهر قد دخل حين أعلن الأستاذ (حسن أرسلان) سكرتير مكتب إدارة المشروع بـ(الميكروفون) أن على الحراس الجدد التواجد في مطعم الشركة بعد نصف ساعة من هذا الإعلان لإقامة حفل غداء لمنسوبي المشروع الجدد على شرف الأستاذ (عبد الرحمن الحوذي) مدير الإدارة. وبدا الحراس غير منظمين لدى مسيرهم متوجهين للمطعم لولا أن (السهو) استدرك الوضع فقام بتنظيمهم أثناء سيرهم على نحو مقبول حتى دخولهم المطعم واتخاذ كل منهم مقعده متوزعين على طاولات الطعام المرتبة الأنيقة والمجهزة بعدة أصناف من المأكولات والمشروبات اللذيذة.
كان (الحوذي) ومساعدوه يتخذون طاولة منفردة جلسوا إليها حيث نهض واقفا ورحب بالحراس الجدد ودعاهم بلطف مبالغ فيه إلى تناول الطعام.
ولقي كثير من الحراس صعوبة بالغة في كيفية استخدام الملاعق والسكاكين والشوكات أثناء الأكل.
وكان (ملحان) و(حمود) و(مطيع) يجلسون إلى طاولة واحدة مشتركة حيث غمز (ملحان) لـ(حمود) بعينه خفية مشيرا إلى (مطيع) الذي ظل يطارد بشوكته وسكينه قطعة لحم من الكباب المشوي في طبقه.
وتوقع الاثنان أن تسفر محاولة (مطيع) هذه عن موقف محرج فلزما الصمت بخبث وخساسة وتركاه دون أن ينبهاه لشيء. وما هي إلا لحظات حتى انزلقت السكين من يده ساقطة على بلاط المطعم محدثة رنيناً تنبه إليه الموجودون.
وكان الوقت مناسباً ـ في هذه الحالة لرفع الحرج عن الحراس ممن لا يعرفون كيفية استخدام أدوات الأكل ـ حيث قال الأستاذ (الحوذي) مباشرة وبصوت مسموع:
ـ يا (جماعة)! خذوا راحتكم!.. كلوا بأيديكم واتركوا عنكم الملاعق والسكاكين والشوكات.
ولما فرغ الجميع من حفل الغداء كان الوقت قد أوشك على موعدهم مع المستر (شين) في المنصة حيث اجتمعوا هناك قبيل الموعد بثلث ساعة. ولدى حضور المستر (شين) اتخذ مقعده من المنصة وكان في صحبته رجل آخر جلس إلى جانبه من بني جلدته يبدو على مظهره الأناقة، والهدوء اللذان لا يقلان عن أناقة المستر (شين) نفسه ومظهره إلا أنه يبدو عليه حداثة سنة مقارنة بالمستر (شين) الكهل الذي تجاوز الخمسين من عمره.
قال المستر (شين) بعد أن حَيَّى الحراس الجدد وهو يشير لذلك الرجل الجالس إلى يساره:
ـ هذا مساعدي المستر (كيم).
ثم سكت لحظات وأضاف قائلا بلطف وأناة:
ـ من تواجهه مشكلة في عمله منكم فعليه مراجعتي أو مراجعة المستر (كيم) بالنيابة عني فهو يجيد العربية على نحو لا بأس به... يعني (كُوِّيس).
وران الصمت لحظات ثم قال مازحاً بتكشيرة هي أقرب إلى البكاء من الضحك:
ـ لكن.. طبعاً. أنا أفضل منه في التحدث بـ (العربية) وإن كان هو أفضل مني في فن (الكونغ فو) و(الكاراتيه).
ولم يشاركه الضحك سوى المستر (كيم) الذي اكتفى بإطلاق ابتسامة صغيرة ليست بحجم مزحته العفوية (الباردة) المرتجلة بينما ظل الحراس الجدد واجمين يتلفتون إلى بعضهم دون أن يفهموا شيئا مما أراده المستر (شين) في مزحته تلك.
حينئذ طلب المستر (شين) من كل حارس إخراج جهاز اللاسلكي الذي في حوزته ليعطيهم شرحا وافيا عن كيفية استخدامه حيث تكلم إلى المستر (كيم) بلغة أجنبية غير مفهومة كان يبدو أنها تعني أن يقوم المستر (كيم) بالشرح نيابة عنه.
ونهض المستر (كيم) شارحاً للحراس كيفية استخدام هذه الأجهزة قرابة ساعتين. ولدى فراغه اختتم المستر (شين) هذه التعليمات والتدريبات الأمنية بتحذيرات لا ينبغي الوقوع فيها. فقد أبلغهم بوجوب الحرص والتنبه أثناء المناوبات الليلية لئلا يتسلل البدو ولصوص الصحراء لسرقة ممتلكات الشركة أو مقتنياتها من معدات وآليات وألا يبرح كل حارس مناوبته حتى يستلم مكانه الحارس الذي يليه في المناوبة.
كما نبه أيضا إلى ضرورة التقيد بتعليمات الإدارة فيما يخص السكن واستخدام مرافق الشركة الأخرى. فالتدخين يمنع منعاً باتا داخل الوحدات السكنية وعلى المدخنين أن يخرجوا خارجها إذا رغبوا في التدخين.
كما أنه ممنوع على الحارس ترك وحدته السكنية مفتوحة لدى مغادرته لها لمناوبته أو لأي شأن يخصه أو ترك الباب الرئيسي للمبنى السكني مفتوحا في آخر ساعات الليل حتى لا تتسلل الكلاب أو الحيوانات البرية الأخرى عبر فتحات السياج الخارجي للشركة لتدخل إلى المبنى وتعبث بمحتوياته.
هذا غير ما تتصف به بعض هذه الحيوانات من وحشية وشراسة قد تودي بحياة البعض. وحتى يعطي هذا الموضوع أهمية كبيرة حكى المستر (شين) لهم من تجربته السابقة في أحد المشاريع ما حصل لأحد الحراس من حادث مؤسف حين ترك باب مسكنه مفتوحا آخر الليل وهو نائم حيث كان هذا الحارس المسكين لقمة سائغة لأحد الضباع الجائعة في نهاية الأمر.
وأخيراً نادى المستر (شين):
ـ المستر (سهو)..!!أين المستر (سهو)؟
فنهض (عناد السهو) من بين الجالسين وطلب منه المستر (شين) أن يأتي إليه في مقدمة المنصة حيث شكره أمام الحاضرين من زملائه على تنظيمه للحراس الجدد في السكن والمطعم ومنحه علامة لاصقة من القماش الأحمر يعلقها بأعلى كمه الأيسر لدى ارتدائه الزى الرسمي للشركة ليكون بذلك (عريفاً) للحراس (السعوديين) في السكن وفي جميع مرافق الشركة الأخرى، فهم تحت مسئوليته في انصرافهم واستلامهم للمناوبات وحضورهم وغيابهم وما سوى ذلك.

(10)
كان المستر (كيم) مشغولاً عصر هذا اليوم بممارسة فن (الكونغ فو) في النادي الرياضي حين قرر (حمود الجوعان) و(ملحان الورطة) أن يلتقياه للموافقة على تبادلهما مواقع أبراج الحراسة خلال مناوبة هذه الليلة بحيث يستلم (ملحان) مناوبته في البرج الجنوبي الشرقي بينما يستلم (حمود) بدوره مناوبته في البرج الشمالي الشرقي. واندهش الاثنان لدى رؤيتهما المستر (كيم) وهو يمارس هذا الفن الرياضي العجيب الذي لم يشاهداه من قبل بخفة ورشاقة مثيرة للإعجاب والتأمل.
فهو أحياناً يوجه بيديه لكمات سريعة وخاطفة في الهواء تجد العين صعوبة في ملاحظة حدود امتدادها وارتدادها ومرة يقفز قرابة متر ونصف في الهواء ليرتكز على الأرض برجل واحدة. وأحيانا يتشقلب على ظهره ليقف معتدلاً بطول قامته بثبات وتماسك وكأن جسمه كله عبارة عن قطعة واحدة من اللحم.
لم يعرهما اهتماماً وهما يقفان على مقربة منه وربما تظاهر بذلك لهما لانشغاله عنهما بممارسة هذا التدريب حتى انتهائه منه. ولزم الاثنان الصمت الذي راق لهما أثناءه متابعة المستر (كيم) وهو منهمك في ممارسته لهذه الرياضة العجيبة.
ويبدو أن (حموداً) كان أكثر انفعالاً وانجذاباً لما يراه من (ملحان) الذي لم يكن بتلك الدرجة من التأثر التي وصلت بـ (حمود) إلى حد جعله ينسى ما حوله ليركز بجميع حواسه على المستر (كيم) وحده.
كان (حمود) و(ملحان) أثناء ذلك كله يقفان متجاورين تفصل بينهما مساحة صغيرة تقارب خطوتين أو ثلاثاً ولا تتسع لأكثر من شخص واحد فيما لو وقف بينهما. حينئذ رأى المستر (كيم) أن من المناسب أن ينهي خاتمة تدريباته بقفزة طائرة مع عدة شقلبات هوائية يستقر بعدها على قدميه وبطول قامته في تلك المساحة الصغيرة الفاصلة بين (حمود) و(ملحان) دون توقع أو تنبه أي منهما للتوقيت الذي اختاره المستر(كيم) لتنفيذ هذه الحركة بالضبط.
وفجأة لاحظاه يتشقلب في الهواء بسرعة ورشاقة فائقة في اتجاههما حتى ظنا أنه سيصطدم بهما مما نتج عنه اضطراب وتزحزح في وقفتهما في الوقت نفسه الذي استقر خلاله المستر (كيم) فيما بينهما على قدميه وبطول قامته.
وضحك المستر (كيم) منتشياً بنجاحه في هذا الاستعراض (البهلواني) بينما جاءت ضحكات (حمود) و(ملحان) متأخرة بعد استيعابهما للموقف ونتيجته المذهلة.
حينها قال (المستر كيم) متعجرفاً:
ـ يبدو أنني أخفتكما!!
فقال (ملحان) بلهجة لم يفهمها المستر (كيم) سوى (حمود) وحده:
ـ (تعقب وتخسا)!!
وأطلق حمود ضحكته الخافتة المعتادة ثم استل من جيبه سيجارة راح يدخنها بصمت.
ولأن (ملحان) أراد أن يخفي تلك الشتيمة التي لم يفهمها المستر (كيم) وإن كانت ضحكة (حمود) قد وشت إليه بشيء من انفضاحها فقد استدرك قائلاً:
ـ جئنا إليك لكي نتبادل مواقعنا يا مستر (كيم).
فقال المستر (كيم) ببرود:
ـ حسنا..!! هذا لا يمنع!!
وفي تلك الليلة نفسها كان كل من (ملحان) و(حمود) قد استلم موقعه الجديد في الحراسة الليلية شأنهما في ذلك شأن بقية الحراس الذين استلموا مناوباتهم على مرافق الشركة المختلفة.
لا يدري (حمود) حقاً لماذا راوده شعور الرغبة في استلام مناوبته الليلية في البرج الشمالي الشرقي بالذات؟ هل لأن اتجاه هذا الموقع من الشركة هو أنسب الاتجاهات التي ستفضي به مباشرة على طول امتداد النظر إلى (قاع ساق)؟
.. هل لأنه الاتجاه الصحيح لرحيل (ضحى) وقومها؟.. هل لأنه الاتجاه الذي يعتقد بأنه سوف يأتيه بشيء ـ حتى وإن كان يسيراً ـ من صوت (وضاح) أو نغمات ربابته حين تهب الرياح الشرقية؟
أم لأنه ذلك الاتجاه الموبوء بخيبات الأمل والأحلام وترهات الضياع ودهاليز العزلة والوحشة ومكامن الخوف والهلع من أجل امرأة يرغب الزواج منها، أو حيوان متوحش يسعى لقتله بدافع (تهمة) اتهمه بها أناس أكثر وحشية وفظاظة أو سعلاة كـ(هلالة) ذلك الغول الليلي الذي تصفه خيالات الرجال وخزعبلاتهم لنسائهم المنهكات في بيوتهن تحت أروقة الدجى كلما جن الليل ليخفن بها أطفالهن للكف عن البكاء والصراخ، والاستسلام للنوم مبكراً ليفيقوا بعدها في صباح اليوم التالى وقد امتلأت فرشهم وملابسهم تبولاً وفاحت منها روائح كريهة.
كان القمر هذه الليلة غير مكتمل الظهور تحجب نوره ندف من السحب المتفرقة في الجو حين أشعل (حمود) سيجارته في برج الحراسة الليلية.
سمع ـ أو هكذا كما يبدو له ـ عواء خافتاً من جهة (قاع ساق) تزداد وتنخفض ذبذباته مع تقلب اتجاه الرياح وتغيير سرعتها، فأرهف له سمعه وران عليه الصمت الذي لم يرافقه سوى صوت دوران عقرب الثواني في ساعته (الفسفورية):
ـ تك.. تك.. تك.. تك..!!
وصوت عواء الريح حين تلفح موجاتها سقف برج الحراسة الذي يقبع داخله وذلك الطنين الذي تصدره أسلاك السياج الرئيسي للشركة كلما هبت الرياح.
وضحك ضحكته الخافتة المعهودة ثم قال:
ـ ستكون أكثر وحشية هذه الليلة أيها الذئب!
كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة مساء حين هدأت الرياح فشاهد من على برج الحراسة خيالاً يتجه نحوه على مسافة تقارب (المئة متر).
تأكد بعد تدقيق الملاحظة أنه خيال لإنسان وليس لأي شيء آخر فلزم الصمت حتى يتحقق من هيئته وملامحه.
وحين اقترب ذلك الخيال عرف حمود أنه صديقه الراعي (وضاح) لكن اكتسحت جوانحه غمامة حزن أمطرته بقشعريرة ساخنة حين رأى رأسه أصلع على بصيص ضوء القمر وقد جاء حافيا دون أن ينتعل حذاء ممسكاً ربابته بإحدى يديه.
حينئذ أطل (حمود) برأسه من نافذة البرج قائلاً برعشة محمومة:
ـ ما بك..؟.. ما بك يا (وضاح)؟
ـ أنا (وضاح) يا (حمود)... ألم تعرفني؟!
ـ أعرفك.. لكن.. لكن لماذا تغيرت هيئتك؟ أين شعرك؟
ـ أنا جائع يا (حمود) أريد طعاماً (الله يخليك)!!
وسكت (حمود) وهو يفرك عينيه غير مصدق بما يراه ويسمعه ولما أحس (وضاح) بتأخره في الرد قال بنبرة موجعة:
ـ الله..!! الله..!! يا (حمود) نسيت صديقك بهذه السرعة..؟!
... هذه ربابتي معي.. أنت تعرفها جيداً، وربما تعرفها أكثر مني.. خذها وتفحصها فهي دليل المعرفة بيننا.
ومد (حمود) يده بحذر لا يدري ما سببه حتى تناول (الربابة) ثم قام بتفحصها في الوقت نفسه الذي ظل خلاله (وضاح) واقفاً بمحاذاة السياج منتظراً نتيجة هذا التعرف إلى هويته. حين تفحص (حمود) الربابة وجدها ـ فعلاً ـ ربابة (وضاح)..
... إنها ربابة متقنة الصنع مصنوعة من (جلد الذئب) ولها قوس صنع وتره من (سبيب الخيل) الناعم.
ـ حسناً... حسناً يا (وضاح) ليس عندي طعام في هذا المكان، ولكن انتظرني دقائق، سأذهب للمطعم وآتي إليك ببعض الطعام. قالها (حمود) وهو ينزل مع عتبات برج الحراسة.
ثم أضاف قائلاً وهو يخفض صوته:
ـ لكن.. اجلس يا (وضاح).. لا تظل واقفاً هكذا، اجلس بمحاذاة السياج كي لا يراك أحد الحراس أو عمال الشركة حتى آتيك.
ومضى (حمود) يغذ السير في اتجاه المطعم، كان خائفاً من شيء ولكنه لا يدري ما هو؟
وكانت مشيته مثيرة للريبة والشكوك خاصة في هذا الوقت المتأخر من الليل. فالساعة تشير إلى الثانية عشرة بعد منتصف الليل والمطعم على وشك أن يغلق أبوابه.
ومما زاد الموقف حرجاً أنه لم يتذكر أنه ترك مناوبته وغادر موقعها إلا بعد أن بلغ منتصف المسافة. وهذا فيه مخالفة لأوامر الشركة ونظامها الداخلي مما يجعله عرضة لعقاب المستر (شين) أو نائبه المستر (كيم) فيما لو رأياه على هذا الحال.
لقد أدرك (حمود) في حينه أنه قد ارتكب خطأ لكنه لا يريد حين وصل إلى منتصف الطريق أن يرتكب خطأ ثانياً بعودته إلى (وضاح) بلا طعام، فأصر على مواصلة طريقه حتى ولج المطعم من بابه الخلفي المخصص لدخول العاملين فقط.
ولحسن حظ (حمود) فإنه لم يجد سوى عاملين يتهيئآن لإغلاق المطعم وكان البقية قد انصرفوا، كشر أحدهما بوجهه لدخوله المفاجئ عليهما، والآخر بدا على وجهه بعض الامتعاض.
فلم يكن منه إلا أن أشار إليهما ببعض الكلمات العربية التي فهما منها أنه يريد طعاماً حيث قام أحدهما بإعطائه كيساً بلاستيكياً فيه بعض اللحم والخبز فانصرف من عندهما متوجهاً إلى وضاح عند برج الحراسة.
كاد (حمود) أن يجن حين لم يجد (وضاحاً) في مكانه، صعد برج الحراسة وأطل في كل اتجاه.. ليس هناك أي علامة أو أثر يدل على وجوده.
كاد أن ينادي بأعلى صوته:
ـ يا (وضاح)..!!.. وضاح..!! أين أنت؟
لكنه تذكر لحظتها أنه أحمق فيما لو فعل ذلك فسينتبه عمال الشركة ورجال الأمن لصوته، سيعرفون أنه ترك مكان مناوبته وربما يتوصل التحقيق في الأمر إلى أن يقوم العاملان اللذان رأياه قبل قليل بإخبار مدير الأمن أو نائبه بوجوده في المطعم وقت مناوبته ولذلك لزم الصمت على مضض وقلق.
كان يجول جنبات برج الحراسة الصغير الذي لا تزيد مساحته عن (مترين في مترين) بعبث يحاول من خلاله تفريغ ما في نفسه من شحنة المفاجأة والدهشة والحيرة. كان يحدق في جهاز اللاسلكي الملقى على الطاولة الصغيرة أمامه.
هل فكر في أن يستخدمه في الإبلاغ عما حدث؟ ستكون أيضا النتيجة ليست في صالحه مما جعله يصرف نظره عنه إلى أن وقعت عيناه على رؤية (الربابة) المنزوية تحت الطاولة، حيث لم يتمالك نفسه من الانقضاض عليها بلهفة وشغف كمن (ينتشل) غريقاً على آخر رمق من أنفاسه.
ـ آه.. الربابة!! الربابة!!.. إنها ربابة (وضاح)!!. إنها ربابة (وضاح) فعلاً تركها تحت الطاولة قبيل نزوله من درج البرج وتوجهه للمطعم.
وانتابته موجة الحيرة والدهشة من جديد، هل هو يحلم؟ أم أنه يعيش الواقع؟ هل الشخص الذي أتاه قبل ساعة هو فعلاً (وضاح)؟ وإن كان هو فأين ذهب؟ ولم اختفى بهذه الطريقة العجيبة الغريبة؟
هل تأخر (حمود) بمجيئه إليه؟ أم أن (وضاحاً) انصرف خشية أن يراه عمال الشركة بمحاذاة السور فيبلغوا عنه الأمن الذين سيقبضون عليه بتهمة محاولة تجاوز السياج إلى داخل الشركة، أو اتهامه بمحاولة سرقة مقتنياتها.ونظر حمود إلى عقارب ساعته ليتأكد أنه لم يترك برج الحراسة منذ خروجه منه إلى أن عاد إليه من المطعم أكثر من عشرين دقيقة.
ومع أن (حموداً) كان واثقاً من نفسه إلا أنه بدا يساوره شك حول هذه الثقة فأراد أن يهاتف (ملحان) في البرج الشمالي الغربي عبر جهاز (اللاسلكي) فيسأله بطريقة غير مباشرة وغير مثيرة للشك عن ذلك الشخص الذي ظهر له فجأة واختفى دون أن يجد له أثراً.
ولما اتصل بـ (ملحان) تحدث الاثنان في أمورهما العادية وبدا (حمود) يستدرجه بالكلام حتى قال على سبيل المزاح:
ـ انتبه يا (ملحان) من لصوص الصحراء والمتسللين وخاصة (الصلعان)!!
فضحك (ملحان) ثم قال معلقاً على هذه المزحة:
ـ إلا المستر (شين)!!
وانتهت المهاتفة بين الاثنين وألقى حمود بالجهاز جانبا وهو لا يزال في حيرة من الأمر. إذن.. لم يستفد (حمود) شيئاً من خلال مكالمته اللاسلكية مع (ملحان) الذي أراد أن يستفسر منه عن ذلك الشخص بطريقة غير مباشرة.
إن (ملحان) رجل ذكي جداً ولماح ودقيق الملاحظة فلو رأى ما رآه (حمود) لأبلغه به. ولكن (حموداً) كان أذكى منه حين نبهه إلى (الصلعان) قاصداً ذلك الشخص الأصلع الشبيه بـ (وضاح).
أما (ملحان) فقد فسر كلمة (الصلعان) من قبل (حمود) على أنه يقصد بها المستر (شين) لكونه قليل شعر الرأس إلى حد يقترب من الصلع. أي بمعنى آخر فهم (ملحان) من (حمود) أنه ينبهه لمراقبة المستر (شين) حتى لا يجد عليهما ملاحظات مخلة بواجبهما أثناء المناوبات الليلية.
من هنا حاول (حمود) أن يستعيد اتزانه وثقته بنفسه من جديد ليراجع هذا الموقف المثير للدهشة والاستغراب من أوله فتناول كوباً من الماء وأشعل سيجارته التي مضى يدخنها بانسجام.
نسي (الربابة) وصرف نظره عنها لكونه لا يشك أبداً في نسبتها لـ (وضاح) لكنه بدا يرصد بذاكرته ملامح (وضاح) وهيئته التي رآه عليها الليلة على بصيص ضوء القمر.
إنه صوت (وضاح) لولا رعشة واهنة في حباله الصوتية قد يكون سببها الجوع. أما الوجه فإن له كثيرا من صفات وجه (وضاح).. وجه أبيض مشرب بحمرة خفيفة، أنف دقيق يرتفع قليلا عند نهاية القصبة، عينان صغيرتان سوداوان حوراوان يكتنفهما من أعلى حاجبان مقوسان جميلان بنهايتين مدببتين يزيد سوادهما وسواد عينيه وضوحاً بياض بشرته وانعكاس أشعة القمر الساقطة عليها.
لكن.. لماذا كان وجهه منتفخاً كرغيف أُخِرجَ لتوه من فرن وقد كان في الأصل رقيقاً ناشفاً؟ هل لأنه حلق شعر رأسه حيث بدت ملامح وجهه أكثر بروزاً؟ أم أن ذلك لمرض أصيب به في رأسه فغير بعض صفاته وملامحه الشخصية؟
ـ أووووه..!!.. لا. لا... ليس ذلك الشخص (وضاحاً)!! ثم إن (وضاحاً) لا يعزف ربابته ولا يخرج بها عادة إلا في الليالى المقمرة عندما يكون القمر بدراً.
قالها (حمود) وهو يشعل سيجارة أخرى بعد أن انشغل عن سيجارته الأولى بالتفكير حتى تحولت بين إصبعيه إلى بروز رمادي تهالك على أرضية برج الحراسة، بعد أن كانت بالغة التوقد والتوهج.

(11)
كان المستر (شين) والمستر (كيم) يمارسان مع بعضهما رياضة (الكونغ فو) وبعض تدريبات (الكاراتيه) عصر هذا اليوم في النادي الرياضي للشركة، في حين كان (حمود) يراقبهما عن بعد من وراء الباب الزجاجي للمطعم وهو يتناول وجبة غدائه المتأخرة.
كان مندهشاً لما يراه من خفة حركتهما وبراعتهما في اتخاذ كل منهما أوضاع الدفاع والهجوم ضد خصمه. فمرة يتخذ المستر (شين) وضعاً دفاعياً ليسدد إليه المستر (كيم) ضربة مارقة كالسهم من إحدى يديه ليتفاداها المستر (شين) ببراعة فائقة.
ومرة أخرى ينقض المستر (شين) بهجمة شرسة يتفاداها المستر (كيم) بسهولة ويسر.. وهكذا!!فلم يزد (حمود) على أن قال وهو ينظف فمه من بقايا الطعام قاصداً الانصراف:
ـ ملاعين..!!.. وشياطين منزلة على الأرض هؤلاء (الخواجات)!!. ولكنه حين كان يهم بالانصراف تفاجأ بدخول المهندس (مصطفى الهيري) عليه من باب المطعم فلزم مكانه في حين اتخذ (مصطفى) مقعده من طاولة مجاورة بعد أن ألقى عليه التحية بابتسامة مؤدبة لا تخلو من المجاملة.
وقرر (حمود) أن يبقى قليلاً، ويستمر في مشاهدة المستر (شين) والمستر (كيم) حتى لا يظن (مصطفى) أنه خرج متضايقاً من دخوله المفاجئ عليه في الوقت نفسه الذي كان ينوي خلاله (حمود) الانصراف فعلاً. ولاحظ (مصطفى) أن (حموداً) منهمك في مشاهدة ذلك المنظر حيث قال بعد ازدراده لقطعة من (الكباب) المشوي:
ـ يبدو أن المنظر قد راق لك يا أخ (حمود).. أليس كذلك؟
فأجابه (حمود) وهو يلوي عنقه في اتجاهه:
ـ شيء عجيب والله يا مهندس (مصطفى)!!
فسأله (مصطفى) بأسلوب محرض على اكتشاف شيء ما:
ـ أتحب أن تمارس مثل هذه الرياضة؟
وسكت (حمود) لحظات، ثم قال وهو يكاد لا يفهم شيئاً:
ـ لكن.. لكن كيف؟
ـ بسيطة..!! الأمر بسيط.. تعال هنا!!.
حينئذ قام (حمود) واتخذ مقعداً مقابلاً لـ (مصطفى) على طاولته وهنا سأله (مصطفى):
ـ ألم تر من قبل مثل هذه الرياضة؟!
فأومأ (حمود) برأسه وهز كتفيه بطريقة تدل على النفي. لكن (مصطفى) كرر سؤاله مرة أخرى بطريقة مثيرة للفضول:
ـ ألم تسمع بـ (الكاراتيه) و(الكونغ فو)؟!
لكن (حموداً) ظل صامتاً أيضا بما يدل على أنه جاهل تماما في هذه الكلمات، بل إنه لم يتجرأ حتى على مجرد التلفظ بها أو نطقها.
وهنا مضى (مصطفى) يشرح لـ (حمود) بأسلوب سهل يتناسب مع فهمه وإدراكه الاجتماعي والثقافي البسيط لمثل هذه الأمور. قال (مصطفى) إن هذه الرياضات قتالية، اكتشفت منذ القدم للدفاع عن النفس وهي سلاح فتاك لمن يتقن استخدامه في حالتي الدفاع والهجوم.
ولاحظ (مصطفى) أثناء حديثه لمعان عيني (حمود) وكأنه يريد استحثاثه لمعرفة المزيد، حيث مضى قائلاً:
ـ يقولون إن (الصينيين) و(اليابانيين) وشعوب (شرق آسيا) هم مكتشفوها!!.. لكن الحقيقة...
وسكت (مصطفى) لحظات وكأنه يريد ترتيب أفكاره ثم قال:
- لكن... الحقيقة أن (المصريين) القدامى هم مكتشفو هذه الرياضة القتالية الخطيرة في زمن (الفراعنة).. ألم تسمع بـ (الفراعنة) يا (حمود)؟
وصمت حمود لحظات وهو يحك رأسه ثم قال:
ـ أسمع بـ (فرعون) حين لحق بـ (موسى) عليه السلام فأغرقه الله في البحر.
وضحك مصطفى لهذه المعلومة البسيطة مما شجعه على المضي في مواصلة حديثه:
ـ حسناً..! حسناً.. على زمن الفرعون (أحمس) غزا (الهكسوس) وهم قوم عتاة من (الشام) مصر فألحق بهم (أحمس) هزائم وخسائر فادحة.. إنهم قوم مهزومون خرجوا من (مصر) يجرون أذيال الخيبة لكن هزيمتهم هذه علمتهم أشياء كثيرة عن خصومهم (المصريين)، عن أساليبهم في الحرب والقتال، عن مهارتهم في صنع النبال والخناجر وأدوات الحرب الأخرى... عن الكونغ فو والكاراتيه، وفن التحطيب بالعصي وغير ذلك. يا لهم من قوم يستفيدون حتى من الهزيمة!!
وبدت ¬على وجه (مصطفى) مرارة مؤسفة وهو يقول العبارة الأخيرة ثم أضاف:
ـ لقد نقل (الهكسوس) من (المصريين) فنون القتال اليدوي معهم إلى الشام بعد هزيمتهم ومن (الشام) انتقل بدوره إلى (شرق آسيا).
ولما تحقق لدى مصطفى أن (حموداً) لم يزل يجهل كثيراً مما يقوله له أراد أن يختصر الموضوع ليوصله إلى ذهنه من أقرب الطرق وأسرعها إليه بعيدا عن التوسع حيث قال:
ـ المهم.. بإمكانك أن تتعلم وتتدرب مع المستر (شين) والمستر (كيم) على فنون هذه الرياضة إذا كنت ترغب أنت أو غيرك من الحراس الجدد فلا بأس.
فأجابه (حمود) بشغف وهو يبتلع ريقه كطفل شاهد قطعة (شوكولاته):
ـ نعم..!.. نعم.. أريد أن أتعلم ذلك.
وهنا انصرف (مصطفى) من عند (حمود) الذي ظل يراقب المستر (شين) والمستر (كيم) من وراء الباب الزجاجي للمطعم ويفكر فيما قاله (مصطفى).
في تلك الليلة لم يستطع (حمود) النوم، لم تكن لديه مناوبة فقد انتهت فترة مناوبته الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل حين استلمها زميله الذي يليه في كشف المناوبات. ونظام الشركة ـ كما هو معروف ـ يقر أن المناوبات الليلية مدتها اثنتا عشرة ساعة، وعلى فترتين طوال الليل أولاهما تبدأ الساعة السادسة والنصف مساء وتنتهي الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل وثانيتهما تبدأ من حيث تنتهي الأولى وتنتهي الساعة السادسة والنصف صباحاً.
كانت الساعة تشير إلى الواحدة والنصف بعد منتصف الليل حيث شعر (حمود) برغبته في التدخين فخرج من السكن وانزوى بمحاذاة أحد جدرانه الخارجية، حيث أشعل سيجارته وراح يدخنها بانسجام تام.
ولما فرغ منها وهم بالانصراف إلى فراشه رأى ثلاثة عمال (كوريين) واقفين أمام سكنهم الخاص بهم يتحدثون ويضحكون فيما بينهم فتوجه إليهم. كان متضايقاً يريد أن يتحدث إلى أي شخص يجده هذه الليلة.
شعر عندها بحرج لم يشهده من قبل.. إنه في طريقه إلى أناس لا يعرفهم ولا يعرفونه، فكيف يدخل بينهم بهذه الطريقة دون أن ينادوه أو يأذنوا له، كاد يتراجع لدى بلوغه منتصف المسافة، إلا أن أحد الثلاثة تمكن في الوقت المناسب من رفع الحرج عنه بشكل عفوي حين رفع له يده، وحياه بلهجة عربية ركيكة:
ـ (مرهبا..!! (تفدل)..!!
ولم يصدق (حمود) نفسه حين سمع هذه العبارة حيث بدا أكثر اتزاناً في شخصيته وهيئته من ذي قبل فمشى فى اتجاههم حتى وقف بينهم.
سألوه عن اسمه فأخبرهم وعرفوه بدورهم بأسمائهم: (وان) و(بين) و(هان) ومضوا يتحدثون فيما بينهم ويشاركونه في الكلام حتى بدا عليه الارتياح والاندماج.
كان المستر (وان) أكثر من صاحبيه بساطة، رجل نحيف في حدود الثلاثين من عمره، كثير التبسم والتعليق والنكات مما جعل (حموداً) أكثر ارتياحاً له من صاحبيه الآخرين خاصة وأنه هو ذاته الشخص الذي ناداه من بينهم حين رأوه مقبلاً نحوهم.
عرف (حمود) أن المستر (وان) هو الموظف المكلف ببريد الشركة ومتابعته، يخرج في مهمته هذه يومين أو ثلاثة ليتابع توصيل واستلام البريد الخاص بالشركة وعمالها بين (الرياض) و(تبوك) و(ضبا) ثم يعود للشركة ليستريح أيام الأسبوع الباقية. أما بالنسبة للمستر (بين) والمستر (هان) فإن الأول يعمل ميكانيكياً، والثاني يعمل كهربائياً، وكلاهما في ورشة الصيانة والتشغيل الخاصة بالشركة.
ظن (حمود) بسذاجته المعهودة أنهم سيطلبون منه التعرف إلى مهنته في الشركة كما عرفوه بأنفسهم ومهنهم. لكن المستر (وان) سبقه في التعرف إلى ذلك حيث قال بنوع من التأكيد:
ـ طبعاً..!.. أنت حارس أمن.. نعم. نعم. ليس لدينا عمال (سعوديون) في الشركة باستثناء من يعملون في الحراسات الأمنية الليلية.
حينئذ علق المستر (بين) مازحاً:
ـ لأنهم أهل المنطقة ويعرفون لصوصها أكثر منا.
وضحك الجميع باستثناء المستر (هان) الذي بدا على وجهه السأم والإجهاد، إذ قال وهو يتثاءب:
ـ يكفي أن يكون مدير المشروع وسكرتيره (سعوديين).
ولم يمكث (حمود) لديهم طويلاً، حيث استأذنهم بالانصراف، ولكنه قبل أن ينصرف قال له المستر (وان) بلطف:
ـ كرر الزيارة يا مستر (حمود)!!.. أنا موجود هنا في الثلاثة أيام الأخيرة من كل أسبوع.
في صباح اليوم التالى كان (عناد السهو) يناقش المستر (شين) في مكتبه في بعض الأمور التي تخص الحراس الجدد مثل استلام المناوبات وكيف تم توزيعها في كشوف معينة بين المناوبين حتى تطرق (السهو) بنقاشه إلى اقتراح أن يتم الدمج بين السكنين (السعودي) و(الكوري) كي يستفيد الحراس (السعوديون) من عامل اللغة الانجليزية أثناء اختلاطهم بنظرائهم (الكوريين).
ورحب المستر (شين) بالفكرة مبدئياً إلا أنه سيؤجل عرضها على الإدارة لشهر أو شهرين ريثما تستقر الأمور ويرى إمكانية تنفيذها. وحين عاد (السهو) إلى سكن العمال (السعوديين) طلب إليهم أن يصطفوا أمام الساحة الصغيرة الموجودة بين السكن ودورات المياه وأخبرهم بأن هناك إمكانية لدمج السكن لكن هذه العملية سيتم تنفيذها على مراحل لأنه لا يمكن إجراؤها دفعة واحدة.
ولابد من مشاورة العمال (السعوديين والكوريين) من الراغبين بتغيير أو تبادل سكنهم لغرض تعلم اللغة. ولذلك فإن على الراغبين في تبادل السكن أن يسجلوا أسماءهم لدى عريف السكن بعد غد ليتم رفعها لمدير الأمن ومن ثم للإدارة.
كان (حمود) يبتسم خفية بين الصفوف الواقفة أثناء كلام (السهو) وهو يقول فيما بينه وبين نفسه:
- إيه يا مستر (وان)..!! ستعلمني (الانجليزية) وتعلمني (الكاراتيه) أيضاً.
وبعد يومين كان ثلاثة أرباع الحراس (السعوديين) قد سجلوا أَسماءَهم لدى (السهو) الذي قام بدوره بتسليمها لمستر (شين). قال المستر (شين) باسماً وهو يستعرض القائمة:
- حسنا. حسناً!! لم أكن أتوقع حقيقة يا مستر (سهو) أن يكون العدد بهذا القدر.
فقال (السهو):
- هي ليست أكثر من رغبة في أن يتعلموا كيف يتحدثون هذه اللغة حتى وإن كانوا لا يجيدون قراءتها أو كتابتها لكن... وسكت (السهو) لحظات وهو يحملق في القائمة التي يستعرضها المستر (شين) بين يديه حيث رفع المستر (شين) بصره إليه قائلاً:
ـ لكن... ماذا؟ .. هل أردت أن تقول شيئاً يا مستر (سهو)؟
فقال السهو:
ـ لكن لا أدري عن مدى موافقة العمال (الكوريين) على ذلك وهل سيكون عددهم كعدد (السعوديين) الراغبين في تبادل السكن معهم؟
ـ وأنا كذلك لا أعلم ولكن سأعلن لهم عن ذلك. ومن رغب منهم فليسجل اسمه لدي.
فقال السهو وعيناه شاخصتان للمستر (شين):
ـ ثمة أمر آخر يا مستر (شين) وهو مجرد اقتراح ليس أكثر.
ـ تفضل.!!.. تفضل يا مستر (سهو).
ـ إذا تحقق أمر دمج السكن فحبذا لو يمنع على (الكوريين) مخاطبة السعوديين باللغة الركيكة أو لهجاتها فإما أن يخاطبوهم باللغة الانجليزية الصحيحة أو بما يتماشى مع مستواهم من الاستخدامات المعروفة لهذه اللغة.. يعني (حبة.. حبة) حتى يتمكنوا من التعامل بها بشكل جيد. وإلا فلن تتحقق الاستفادة من هذا الدمج.
فقال المستر (شين) وهو يكشر بأسنانه:
ـ لا بأس مستر (سهو)!!.. سيكون لك ما أردت.
وبعد أربعة أسابيع من استقرار الأمور في الشركة حدثت سرقة قام بها مجهولون أثناء الليل لمعدات الشركة وبعض مقتنياتها من خيام وفرش وتموين في المخيم الشمالى الذي يبعد عن الإدارة بحوالي ثلاثة عشر (كيلومتراً).
ولما علم المستر (شين) بذلك أبلغ الإدارة للتحقيق في هذا الموضوع واتخاذ الإجراء اللازم. حينئذ أعلن الأستاذ (حسن أرسلان) بـ (الميكروفون) أن الأستاذ (عبد الرحمن الحوذي) مدير المشروع يرغب في أن يلتقي بالحراس (السعوديين) في المنصة أمام مكتبه حالاً.
وهنا اجتمع الحراس وحضر الأستاذ (الحوذي) ومساعدوه وتحدث للحراس عن حادثة السرقة وأوعز للمستر (شين) في أن يختار ثلاثة أشخاص من الحراس السعوديين للمناوبات الليلية على مخيم الشركة لمدة ثلاث أو أربع ليال ريثما يتم التحقيق في الأمر.
ولما انتهى الاجتماع أشار المستر (شين) لـ (عناد السهو) بأن يأتيه في مكتبه بعد ساعة ومعه كشف بأسماء الحراس المختارة التي ستستلم المناوبات الليلية على المخيم المسروق.
وبعد مضي ساعة كان (عناد) قد سلم كشف المناوبات للمستر (شين) في مكتبه كما طلب منه.
كانت القائمة تتضمن ثلاثة أشخاص أحدهم (حمود الجوعان) ومعه اثنان من قبيلة أخرى أحدهما يدعى (فايز الجلاوي) والآخر يدعى (ناصر بن جمشان).
وحين بلغ (حموداً) نبأ اختياره ضمن تلك القائمة سكت دون أن يبدي اعتراضاً على الرغم من كونه يحق له ذلك حسب نظام الشركة.
وهَمْهَمَ بضحكته المعهودة:
ـ على الأقل (نتفسح) في البر.. ما (شفناه) من زمان وكلها ثلاثة أيام ويعود المستر (وان) من (مشوار) البريد.
كان مخيم الشركة يقع ضمن المسافة التي تمثل المرحلة الأولى لتنفيذ مشروع سفلتة طريق الشمال البالغ إجمالي طوله ما يقارب (الخمسمائة كيلو متراً) أو ما يزيد عنها قليلاً.
وكان هذا المخيم عبارة عن خيمتين صغيرتين متجاورتين إحداهما جعلت لاستراحة العمال والأخرى اتخذت مخزناً يضع فيه العمال ملابسهم وفرشهم وبعض المعدات والآليات الخاصة بالمشروع مثل قطع الغيار و(المواتير) الكهربائية و(الدريلات) أو الحفارات الصغيرة.
هذا بالإضافة إلى وجود الآليات الأخرى التابعة للمخيم والتي تظل واقفة بعيدا عن المخيم على جوانب علامات ترسيم الطريق مثل (التراكتورات) والحفارات الكبيرة وناشرات (الاسمنت) بحيث يمكنها مواصلة عملها هناك صباح كل يوم حتى غروب الشمس. واتفق (حمود) مع رفيقيه (الجلاوي وابن جمشان) على تناوب الخفارات الليلية.
كانت ليلة قمراء صافية نشر قمرها ضوءه الفضي المتلألئ على سهول (وادي الضواري) وجباله وأشجاره ومخلوقاته، وكانت الريح شرقية لينة هادئة تنفث أنفاسها العذبة بأريحية تبهج الروح كعاشق يهمس بلواعج الحب والغرام لمعشوقته بعد فراق طويل كاد أن يودي بحياتهما. وهذا مما شجع (حموداً) على الرغبة في تبادل فترة مناوبته مع (ابن جمشان) بحيث يتولى (ابن جمشان) فترة أول الليل في حين يتولى (حمود) الفترة الثانية منه.
كان موقع المناوبة الذي اتفق عليه المناوبون الثلاثة هو رأس هضبة صغيرة تقع في منتصف المسافة بين المخيم وتلك الآليات المتوقفة على جوانب علامات ترسيم الطريق. كان (حمود) يشعر في داخله أنه سيواجه هذه الليلة شيئاً ما لدى استلامه لموقع المناوبة من (ابن جمشان) لكنه لا يعلم ما هو؟ كان يدخن سيجارته بصمت ومزاجية لم يألفها من قبل. سمع (وضاحاً) يعزف ربابته بلحن (سامري) مثير للشجن والحرقة والألم. وتذكر أن ربابة (وضاح) لازالت عنده في السكن تحت سريره، رآها بعينيه ليلة البارحة.
هل هذا يعني أن (وضاحاً) قد تسلل إلى السكن من بعده ليسترجعها إليه؟ أم أنه قد أتى بربابة غيرها؟
في الوقت ذاته يقع بصر (حمود) على قطيع من الإبل ترتع بهدوء في خميلة شجرية صغيرة تقع إلى يسار الهضبة التي يعتلي قمتها وعلى يمينه ـ فيما بينه وبين المخيم ـ تتقافز حيوانات صغيرة لم يستطع تحديد جنسها، يبدو أنها أرانب أو ثعالب تتلاعب بوداعة عابثة. وأمامه على مقربة من الآليات المتوقفة ذئب (قاع ساق) وجراؤه الثلاثة تتبعه من ورائه يبدو على مظهرها الهدوء والسكينة، لم تكن جائعة وإلا لملأت الجبال والأودية عواء موحشاً تقشعر له الأبدان. لكنها ربما أتت حين شمت ندى المياه التي ترشها (الوايتات) على امتداد الطريق في المرحلة الأولى من السفلتة بعد تمهيده بـ (التركتورات) ذات (المساحي) العريضة.صرف نظره عنها بعد أن تنهد بارتياح كمن حط عن ظهره حملاً ثقيلاً.
يبدو أنه شعر بالطمأنينة حين رآها حية على الأقل، وإن كان مستقبلها في الحياة يضجره، ويؤرقه أحياناً كلما تذكرها أو سمع عواءها الموحش الموجع في ذلك القاع الموغل في الظمأ والعطش والجوع. شعر بالضيق، تململ في مكانه وأراد أن يغير من وضع جلسته فاستدار بكامل جسده حتى جعل وجهه ناحية الغرب.
رأى خيالاً أسود يتراءى له من وراء إحدى الشجرات الواقعة بمحاذاة سفح الهضبة التي يعتليها. لم يكن خيالاً مكتمل الملامح، لكنه يبدو له أن فيه شيئا من رائحة (ضحى) أو هويتها المعجونة بتراب هذا المكان. حينها لم يكن منه إلا أن أسدل ذيل (شماغه) على عينيه حتى أخذته دوامة النوم التي لم يصح منها إلا على أشعة شمس الصباح.

(12)
كان مشروع سفلتة طريق الشمال قد اكتمل تقريباً بعد مضي ما يقارب خمس سنوات من العقد الذي أبرمته الشركة مع وزارة المواصلات. لم يتبق سوى ثلاثة أشهر لتقوم الشركة بـ (التشطيبات) النهائية لهذا المشروع مثل إزالة الصخور والتراب المتراكم على جنبات الطريق الناتج عن عمل الآليات من (تراكتورات) وشاحنات أثناء الشغل ومثل إنهاء عقود الحراس (السعوديين) المتعاقدين معها باستثناء من رغب منهم في العمل على عقد آخر جديد تلقته الشركة من الوزارة نفسها لسفلتة أحد الطرق في المنطقة الجنوبية.
كان (حمود الجوعان) واحداً من ثلاثة سعوديين فقط رغبوا في أن يجددوا عقودهم مع الشركة لدى انتقالها للجنوب واستلامها للمشروع الجديد هناك. أما الآخرون ـ ومن بينهم مطيع وملحان والسهو والجلاوي وابن جمشان ـ فقد فضلوا عدم تجديد عقودهم، وأكدوا رغبتهم في ذلك بإقرارات خطية، ليعودوا بعدها إلى أهليهم وذويهم في (الشمال) كما كانت حياتهم في السابق.
ويبدو أن (حموداً) قد ألف الحياة في الشركة بعد مرور هذه السنين، خاصة بعد أن أصبح يجيد التحدث باللغة الانجليزية والتفاهم بها. هذا بالإضافة إلى تأقلمه مع منسوبيها من العمال (الكوريين) والإداريين العرب.
لقد أحبه المستر (شين) لهدوئه ورزانته، ولإخلاصه في عمله الحراسي الليلي.
وكانت التقارير النصف سنوية التي كان يقدمها (السهو) للمستر (شين) عن الحراس السعوديين تثبت حرص (حمود) على واجبه طيلة السنوات الماضية دون وقوعه في خطأ أو خلل.
أما المستر (كيم) فقد بدأ أكثر ارتياحاً لـ(حمود) مع مرور الوقت حين كانا يلتقيان في الأسبوع مرتين في النادي الرياضي لممارسة رياضة الكاراتيه سويا.
وازداد إعجابا به لمثابرته وصبره وجلده في تعلم فن (الكاراتيه) وإتقانه له لدرجة تكاد تقترب من درجة إتقان المستر (كيم) نفسه لهذا الفن. وقد توطدت علاقات (حمود) مع مرور الأيام بزملائه من العمال الكوريين حتى صار يعرف ما لا يقل عن ثلاثة أرباعهم ومنهم المستر (وان) والمستر (هان) والمستر (بين) يتحدث إليهم كثيرا في السكن باللغة الانجليزية وفي المطعم وفي غيرهما من المرافق الأخرى للشركة.
كان المستر (وان) حين يأتي بالبريد للشركة آخر كل أسبوع ـ أحياناً ـ يعطي (حموداً) ظرفاً مغلقا يحتوي على بعض (المجلات أو الصور). ويضحك المستر (وان) حين يرى (حموداً) يتلقف الظرف من يده بلهفة وشغف ليدسه بين ثيابه مسرعاً إلى سكنه.
وهناك يقوم بإغلاق باب وحدته السكنية ويمضي بتصفح تلك المجلات. إنه لا يعرف القراءة ولكنه يكتفي بالنظر إلى تلك الصور المثيرة لفتيات ونساء عاريات وشبه عاريات في أوضاع جنسية مغرية.
كان ـ أحيانا ـ يحرق المجلات لدى انتهائه من مطالعتها وأحيانا أخرى يجتزئ منها بعض الصفحات المفضلة لديه ليدسها تحت سريره أو في دولاب ملابسه بين طيات ثيابه المعلقة.
لا يدري (حمود) لماذا يتصرف هذه التصرفات والسلوكيات الماجنة على الرغم من كونه تجاوز سن الأربعين؟كل ما يعرفه أنه يستمتع برؤيتها أو يتأثر بكثير من مجالسيه، ومحدثيه عندما يحكون له عن غرامياتهم مع النساء أو عندما يصفون له ما رأوه من مفاتن أجسادهن.
لكنه كان يعرف أنه ليس الوحيد بين الرجال حين يرغب في استكشاف هذه الأمور أو الاطلاع عليها سواء حين كان في مجتمعه البدوي البسيط الذي عاش فيه أو كان في مجتمع متطور كمجتمع الشركة.
كل الرجال يعشقون النساء وكل النساء يفتن الرجال، لكن لماذا يحس ـ أحياناً ـ أنه أكثر من غيره عشقا لهن وفتنة بهن. كان يمكن لغيره من الرجال أن يعشق ببساطة وأن يلتقي بمن يعشق من النساء، وربما يتزوجها دون أن يكلفه ذلك ربع ما كلفه حبه لـ (ضحى) من مشقة وعناء وبؤس ودون أن يشترط عليه مهر باهظ وخيالي قوامه رؤوس (ذئب قاع ساق وهلالة وثعبان ريع الدرب).
كان يمكنه أن يعشق ببساطة وأن يتزوج ببساطة أيضا لكن حزنه يتضاعف حين يتذكر أنه عاش طفولة بائسة في مجتمع منغلق تلاها شباب مهدر بين سفوح جبال (وادي الضواري) وسهوله وكهوفه، ثم رجولة أكثر بؤساً جعلته يمارس هواياته في فترة متأخرة كما لو كان شابا أرعن وقد تجاوز الأربعين وهو لا يزال يلهث وراء سراب العشق والزواج والمهور الخرافية.
ساعتها كان ينظر إلى وجهه في المرآة ليعرف أن (ضحى) لم تعد تنتظره، مما جعله يمزق تلك المجلات، ويحرق بعض ما احتفظ به لديه من صفحاتها بحنق وبؤس لم يشعر بهما من قبل.
وتأكد لديه هذا الشعور البائس حين أبلغه (ملحان) لدى زيارته له في الشركة قبل يومين أن عمه (عجلان) قد أعطى نية الزواج لـ (ضحى) من ابن عمها (جهز) الذي يعمل في أحد القطاعات العسكرية في مدينة (تبوك) بعد أن تبين له أن (حموداً) قد تجاوز الأربعين دون أن يفي بشروط الزواج التي فرضت عليه.
كانت الشركة تنفض من يديها آخر غبار مشروع سفلتة (طريق الشمال) حين أعلن الأستاذ (حسن أرسلان) بـ (الميكروفون) من مبنى الإدارة بيانا على شكل تعميم داخلي مضمونة أن الشركة قد وضعت لمساتها الأخيرة على المشروع.
وستستدعي طاقما من المشرفين والمتابعين له من مقر الوزارة في الرياض لزيارة الشركة في موقعها وأخذ جولة تفقدية على طول امتداد الطريق لمراجعة ما إذا كان قد استوفى جميع شروط البنود المتفق عليها بين الوزارة والشركة ومن ثم تسليمه واستلامه بحيث يكون جاهزا للافتتاح من قبل الوزير أو أحد المسئولين الكبار في الدولة.
ولذلك فإن على منسوبي الشركة المحافظة على المظهر العام والخاص للشركة لدى استقبال مثل هؤلاء المسؤولين والمندوبين. كما أن على المنسوبين خلال مدة أقصاها ثلاثة أسابيع من تاريخ هذا الإعلان أن يتأهبوا لانتقال الشركة لموقعها الجديد في (الجنوب).
كان (الجواعين) تلك الليلة مجتمعين كعادتهم لدى (منصور البو) بعد صلاة المغرب مباشرة.
عندئذ قال (منصور) وهو يدور بـ (دلة القهوة) على الجالسين حول النار:
ـ (أحسن) خبر سمعته يا جماعة إن الشركة سترحل عن ديارنا.. الحمد لله!! سنعود لمنزلنا القديم إذن بعد رحيلها.
فأجابه (ابن ريحانة) وهو يقلب عينيه في السماء:
ـ الليلة ليلة الثامن من (شعبان).. يعني شهر (رمضان) تبقى دونه واحد وعشرون ليلة تقريباً.. حبذا لو نرحل يا (جماعة) قبل دخول رمضان طالما أن الشركة تتجهز للرحيل فالجو حار ويشق علينا الرحيل في النهار ونحن صائمون!!
وهنا اختلس (أبو مصلح) لحظة سانحة للوم والتثريب حيث قال هامساً:
ـ ليتك رجعت يا (حمود) لغنمك وإبلك مثل (ملحان) و(مطيع)!!
وبعد أقل من ثلاثة أسابيع كانت الشركة قد رحلت تماماً عن الموقع فيما انتقل (الجواعين) إلى منزلهم القديم وكان قد تبقى دون دخول (رمضان) ليلتان فقط. وانقطعت أخبار (حمود) عن أهله في (الشمال) بعد رحيل الشركة واستلامها للمشروع الجديد في (الجنوب) ومضت ثلاث سنوات على ذلك.
كل ما يعرفه عن أهله ليس أكثر من أخبار هامشية يشك في صحتها يأتونه بها أناس من أبناء القبائل المجاورة للجواعين مثل زواج (ضحى) من (جهز) ووفاة (ابن ريحانة) وسماع خبر عبر الإذاعة عن قتل ذئب متوحش ضخم الجثة من سباع (وادي الضواري) على يد قناص ماهر من أهل تلك المنطقة شك فيما بينه وبين نفسه أنه ذئب (قاع ساق). لقد عاش حمود غريباً بين أهله في (الشمال) وها هو الآن يعيش غريباً بين غيرهم في (الجنوب) وربما تمتد مسيرة غربته إلى حد لا يعلمه.
قيل إن الشركة بعد انتهائها من مشروع ¬(الجنوب) بخمس سنوات لم ترغب بتجديد عقود الحراس (السعوديين) معها لكونها قد أنهت تعاقدها مع وزارة المواصلات نهائياً ليعود عمالها (الكوريين) لبلادهم. ولذلك فإن (حموداً) قد فضل الإقامة في الجنوب خاصة بعد أن تزوج امرأة من أهل تلك المنطقة.
وقيل أيضاً إن المهندس (مصطفى الهيري) مساعد مدير المشروع قد ساعده في السفر معه لـ (مصر) وإنهاء جميع إجراءات هذا السفر لإلحاقه بمعهد (الكاراتيه) أو أحد الأندية الرياضية المختصة بهذا الفن الرياضي في القاهرة.

مع تحيات محبكم ابو عبد المجيد مع العذر والسموحه فالنص طويل الا انه يستحق القراءه لان الروايه تلقي الضوء على حاله واقعيه لشريحه من مجتمعنا في فتره وربما لازالت ولها اهميتها في معالجة واقعنا الاجتماعي --على انني اجزم ان هذه الرويه لو خرجت على شكل مسلسل او مسرحيه لكانت الاستفاده اكثر وشكرا لكم وشكرنا لاستاذنا العبسي السعودي شاعر العرب الجليل هذا الطرح الثقافي الرائع







من مواضيع في المنتدى

التوقيع :
آخر تعديل ابوعبدالمجيد1 يوم 05-17-2010 في 01:50 PM.

رد مع اقتباس