موقع الشاعرغازي البراك موقع الجميع - عرض مشاركة واحدة - اقدام تنتعل السراب
عرض مشاركة واحدة
 
قديم 05-17-2010, 12:13 PM   رقم المشاركة : 2
مسنشار
 
الصورة الرمزية ابوعبدالمجيد1





الحالة
ابوعبدالمجيد1 غير متواجد حالياً

ابوعبدالمجيد1 is on a distinguished road

كبار الشخصيات وسام الاداره 


 

افتراضي رد: اقدام تنتعل السراب

(4)
كان الليل في ثلثه الأخير حين عاد (حمود الجوعان) إلى سيارته المتوقفة على الطريق الرملي الذي يخترق (وادي الضواري) من ضفتيه الشمالية والجنوبية. حينها هرع إلى استخدام الكشاف اليدوي الموجود في درج السيارة ومضى يقلب بقعة الضوء المنبثقة من شمعته هنا وهناك وكأنه يبحث عن شيء.
لكنه لم يجد سوى آثار لإطارات سيارة توقفت على مسافة قريبة جداً من سيارته التي سدت منفذ الطريق. بدا ذلك واضحاً من خلال آثار إطارات تلك السيارة التي يبدو أن سائقها قد غير وجهته ليبحث عن منفذ آخر بعد أن قرع المنبه الذي سمع (حمود) أصداءه المترددة في الجبال من حوله بعيد إخراجه للذئب من البئر ومنذ أكثر من ساعة مضت.
وكاد أن يطفئ الكشاف وأن يستقل سيارته عائداً إلى بيته لولا أنه فكر في اللحظة الأخيرة بالاستدارة من وراء مؤخرة السيارة والتكشيف حولها. وهنا وجد آثارا كبيرة لأقدام ذئب ببراثن طويلة معقوفة لم ير مثلها في حياته فاتسعت حدقتا عينيه لهول المفاجأة لدرجة أنه نسى أن في يده كشافا حين استل بندقيته بلمح البصر من على عاتقه بكلتا يديه مما جعل الكشاف يسقط مجلجلاً على الأرض.
وبالسرعة نفسها التي استل خلالها بندقيته من على عاتقه تمكن من التقاط الكشاف من على الأرض والقفز إلى مقود السيارة حيث أدار مفتاح التشغيل واندفع بها إلى الأمام حتى لا تمسح إطاراتها تلك الآثار المرعبة من خلفها. وراح يكشف بأنوار السيارة عن يمينه ويساره ومن أمامه وخلفه دون أن يعثر على شيء.
وأخيراً عاد مرة أخرى للآثار الغريبة فغطاها بقدور صغيرة كان يحملها معه في سيارته حتى لا تمسحها الرياح وليتمكن بذلك من اطلاع رجال (الجواعين) عليها في الصباح الباكر حين تشرق الشمس.
لم يكن لدى حمود أدنى شك في أن هذه الآثار لذئب (قاع ساق) وإن لم يكن قد شاهدها قط في حياته فإنها طالما وصفت له كثيراً بهيئتها المميزة من قبل الناس.
كما أن (حموداً) لم يكن ممن يخافون الذئاب إلا أن ما أصابه بالدهشة والذهول وهول المفاجأة هو جرأة هذا الذئب الضاري الذي استطاع بجرأته الدامية، وبما يحمله بين جنبيه من قلب متحجر وبما تفوح به أنفاسه النتنة من رائحة الدماء واللحوم وبما تخطه براثنه على الأرض من أثر يدل على شراسته ووحشيته وعدوانية منقطعة النظير أن يقترب من سيارته بهذا العلن المفاجئ إلى ذلك الحد الذي يجعل (حموداً) قاب قوسين أو أدنى من الموت فيما لو كان موجوداً فيها ساعتها.
عاد (حمود) إلى بيته تلك الليلة مجهداً منهكاً وعلى الرغم من ذلك فإنه لم يستطع النوم إلا لساعة واحدة فقط صحا بعدها على أذان صلاة الفجر الذي رفعه (عثمان الحنبلي).
وأخيراً أخبر (حمود) الرجال بعد انفضاضهم من الصلاة بما وجده ليلة البارحة فركب معه بعضهم في سيارته حتى وقفوا على تلك الآثار المرعبة التي أكدوا جميعهم أنها آثار ذئب (قاع ساق) وليست لمخلوق غيره أبداً.
فذئب (قاع ساق) ذئب يختلف كثيراً عن غيره من الذئاب المألوفة بهيئته وطباعه وسلوكه، ذئب ضخم الجثة ذو مخالب طويلة حادة كأطراف السكاكين... ذئب (إبل) يستطيع بضربة واحدة من مخالبه الفولاذية أن يقتل بعيراً ويأنف بكبريائه الوحشي من قتل الغنم، أو الأرانب أو غيرها من المخلوقات الصغيرة.
وهو بالإضافة إلى ذلك لا يتردد أبداً في قتل إنسان متى ما وجد الفرصة سانحة وهو أيضا صاحب سوابق دامية في سجله الوحشي، منها أنه قد قتل راعي إبل ينتمي لإحدى القبائل المجاورة للجواعين عندما كان يرعى إبله عصر أحد الأيام قبل عامين ماضيين.
ومن السلوكيات الغريبة المحيرة لهذا الذئب أنه لا يقتل ضحاياه إلا من الجهة الخلفية للرأس أو الرقبة وفي بعض الأحيان يتركها قتيلة دون أن يأكل منها شيئاً. ومن سوابقه الدموية المعروفة كذلك قتله لسبع نياق (ملح) في ليلة واحدة لـ (عجلان).
يضاف إلى سجله الإجرامي كذلك اتهامه بقتل (مها) زوجة (منصور البو) ووليدها حين داهمها مخاض الولادة في بيتها ففرت حياء لتضع حملها في الوادي بعيدا عن عيون الناس.
ومع أن (منصور البو) نفسه لم يتأكد لديه بالدليل القاطع أن (هلالة) هي التي قتلت زوجته ووليدها إلا أن هناك غيره ممن لا يستبعدون ذئب (قاع ساق) من دائرة الاتهام بهذه الحادثة الشنيعة.
وحتى لو لم يكن الذئب قد اقترف هذه الفعلة فقد رأى الجميع أن في رصيده الإجرامي من الضحايا الأخرى ما هو كاف لأن يعلنوا عليه سخطهم وغضبهم وانتقامهم وعلى رأسهم (عجلان) الذي كان أول شخص يعلن إهدار دم هذا الذئب (اللعين) على حد تعبيره في أي زمان ومكان.
قال (حمود) وهو يشير بإصبعه للواقفين حوله لآثار الذئب مهمهما بضحكته الخفيفة المعهودة أن هذا الذئب خطر جداً. ومن الخطورة والحذر بمكان بحيث انه جاء بعدوانيته على نحو مخاتل، ليتوقف عند مؤخرة السيارة، ولم يتجاوزها إلى مقدمتها أو جوانبها حتى لا يمكن سائقها من أية فرصة لدهسه أو حتى مجرد رؤيته.
وحين يقول (حمود) مثل هذه المقولة فإنه يريد بها أن يفسر للواقفين حوله على الآثار ممن لم يروها في حياتهم بعضا من سلوكيات هذا الذئب على أرض الواقع والتي طالما سمعوا بها دون أن يشاهدوها.
كما أنه أراد ـ أيضا ـ أن يقارن بين طريقة الذئب في قتله لضحاياه من الجهات الخلفية لرؤوسها ورقابها وبين مسألة وقوفه ومراوغاته المخاتلة من خلف السيارة، مما يدل على وجود تشابه وتماثل في السلوك والطباع والأساليب بين ما كان موصوفا به هذا الذئب وبين ما هو مشاهد ومرئى عنه حاليا على أرض الواقع.
وهـذا (متعب الفطين) في الليلة التالية يتخذ ركناً قصياً من مجلس الشـيخ (محـسن) بـ (راديوه) الذي فتح موجته على إذاعة (لندن) وإلى جانبه (ملحان الورطة).
كان حديث الحاضرين وشغلهم الشاغل يدور حول (حمود) وموقفه الإنساني المتعاطف مع ذئب البئر ومواجهته غير المباشرة مع ذئب (قاع ساق) ليلة البارحة.
وفي هذه الأثناء همس (ملحان) لـ(متعب) بلؤم وخبث:
ـ معقول أن يقع ذئب (قاع ساق) بين يدي (حمود) بهذه السهولة ناقلاً (حتفه على كتفه) ويفلت منه بالسهولة نفسها (سالماً غانماً)؟!
فيجيبه (الفطين) بلهجة مثيرة للشكوك والظنون حول ما رواه لهم (حمود)ومدى مصداقيته:
ـ إيه..!! (يمكن) يكون (حمود) صادقاً..!!.. ولم لا؟! فربما أراد أن يبقي الذئب حياً ـ على الرغم من مقدرته على قتله ساعتها ـ ليقتنص به (هلالة) التي تخشى الذئاب ـ كما هو معروف عنها ـ أولاً ثم يقوم بالقضاء عليه أخيراً.
وحين سمع (ملحان) ما أجابه به (الفطين) تبادر إلى ذهنه لحظتها ما سبق أن قاله (مطيع الذراع) في إحدى الليالي بعفويته وسذاجته المعهودة من أنه لا ينبغي قتل ذئب (قاع ساق) حتى يقتل (هلالة) أولاً. حينئذ لوى (ابن ريحانة) عنقه التي كان يمدها في اتجاه السماء للحاضرين فقال مخاطباً (عجلان):
ـ أنت يا (عجلان) كنت مع (الجماعة) حين وقفوا على الأثر مع (حمود) يوم أمس، فهل أنت متأكد أن هذا الأثر هو نفسه أثر الذئب الذي قتل (نوقك الملح)؟!.
فاستشاط (عجلان) غضباً، ثم قال بنزق:
- كيف تقول هذا الكلام يا (ابن ريحانة)؟... ماذا تقصد؟... هل هذا يعني أنني أكذب؟!
فضج المجلس لتوتر الموقف بين (ابن ريحانة) و(عجلان) حيث تدخل الشيخ (محسن) في حينه مشيراً للحاضرين بأن يلزموا الصمت أو الهدوء على الأقل، فقال (ابن ريحانة) بشيء من الاعتذار:
ـ المعذرة يا (عجلان)..!! فأنا لا أقصد أنك تكذب أبداً، ولكني أقصد أن الأثر الذي وجده (حمود) ليس بالضرورة أن يكون هو أثر الذئب نفسه الذي قتل نوقك.
وصمت (ابن ريحانة) لحظات حتى تأكد لديه أنه استحوذ على اهتمام الجميع بحديثه فمضى يقول:
ـ آثار الذئاب تتشابه فيما بينها إلى حد كبير، ومع ذلك يبقى ذئب (قاع ساق) منفردا عنها بجنسه كما يدل عليه أثره المميز.
ولذلك فإنني أعتقد أن لهذا الذئب سلالة من جنسه تتشابه جميعها في أثرها وطباعها وسلوكياتها. أريد أن أقول ـ باختصار ـ أن ذئب (قاع ساق) من أصل (مهجن) أحد أبويه ذئب والآخر كلب. والفصيلة (الكلبية) تتراوح أعمار أفرادها ـ كما نعرف ـ بين عشرين إلى ثلاثين عاماً كحد أقصى.
فهل يعقل يا (جماعة) أن يكون هذا الذئب هو نفسه الذئب الذي قتل نوق (عجلان) قبل أربعة أعوام، وهو الذئب نفسه ـ أيضا ـ الذي قتل زوجة (منصور) ووليدها قبل عشرين عاماً مضت..؟!.. أم أنه ذئب آخر من نفس جنسه وسلالته؟!
ومع أن كلا من (عجلان) و(منصورا) المعنيين بهذا الكلام لم يعلقا على ما سمعاه لا بإثبات ولا بنفي إلا أن البعض يرى فيما قاله (ابن ريحانة) شيئا من المنطقية والواقعية.
ويبدو أن (ملحان الورطة) قد استشعر من ملامح الحاضرين سأمهم ومللهم من الحديث عن الذئاب وأجناسها وطباعها وسلوكياتها فأراد أن يذكي جذوة المشادات الكلامية فيما بينهم من جديد حيث قال:
ـ شبعنا من (السوالف) عن ذئب (قاع ساق) وعن (هلالة) لكنا ما سمعنا شيئا (من زمان) عن (ثعبان ريع الدرب الأسود).
وأحس (عجلان) أنه المعني بين الجالسين بما قاله (ملحان) لكونه المتضرر الوحيد من بينهم من هذا المخلوق فقال بانفعال حاد:
ـ أنا.. أنا.. قلت لكم أنه أكل سلوقيي (نبهان)!!
وهنا كانت الفرصة سانحة لشتائم (أبي مصلح) الهامسة:
ـ قطع الله لسانك يا (ملحان).!!
وتدارك (منصور) الأمر في حينه قبل أن يصل الانفعال بـ (عجلان) إلى حد يفقده وقاره ورزانته بين الحاضرين حيث قال:
ـ كثر الكلام ما منه منفعة يا (جماعة) وقصة (عجلان) كلنا نعرفها.
وأراد (متعب الفطين) أن يقلل من أهمية ما قاله (ملحان) من كلام يرمي إلى التشكيك في قصة (عجلان) مع الثعبان وبأنها وهم من أوهام الشيخوخة والتخريف الذي أصيب به عقله نتيجة تقدمه في السن قائلاً:
ـ (عجلان) أكبرنا جميعاً وأعقلنا وهو أدرى بما أصابه من غيره.
وأضاف (متعب) وهو يرنو ببصره إلى (ابن ريحانة) قائلاً:
ـ أليس كذلك يا (ابن ريحانة)؟!
فلم يكن من (ابن ريحانة) حين شعر بضرورة تدخله في الموضوع إلا أن قال:
ـ المسألة ليست مسألة كبر وصغر وعقل وما حدث (لعجلان) قد يحدث لأي واحد منا - نحن الحاضرين ـ في هذا المجلس. لكني أعتقد أن (عجلان) عندما حدثت له هذه القصة في تلك الليلة كان في حالة بين النوم واليقظة.
وهي حالة طبيعية لا شعورية تحدث لبعض الناس من صغير وكبير وخاصة أولئك الذين يصابون بالإجهاد والتعب الشديدين ويختلط فيها الحلم باليقظة والواقع بالمتخيل.
وإلا.. فماذا يعني ـ إذن ـ أن يلتهم ثعبان (سلوقياً) ضخما كـ (نبهان) دون أن يترك أي دلالة على هذا الفعل كالأثر وبقايا الدماء والعظام واللحم؟!
وسكن غضب (عجلان) قليلاً بعد أن انتفخت أوداجه لكن (ابن ريحانة) سرعان ما بادره بسؤال غريب قائلاً:
ـ .. لكن أريد منك يا (عجلان) أن تتذكر في أي فصل من فصول السنة حدثت لك هذه القصة على وجه التحديد؟!.
ورنت عيون الحاضرين لـ (ابن ريحانة) بنظرات مفعمة بالذهول والتوجس لكن (عجلان) استطاع أن يتمالك نفسه حيث قال بعد لحظات:
ـ في الخريف... نعم في الخريف قبل أربعة أعوام.
فقال (ابن ريحانة) وهو يزور بعنقه ناحية السماء:
ـ الخريف يستمر لبضعة أشهر لكن هل تستطيع أن تقول لي: أكان ذلك في أوله أم في وسطه أم في آخره؟
فأجابه (عجلان) بعد تردد قائلاً:
ـ أظنه... أظنه كان في أوله.
وظن (عجلان) أن (ابن ريحانة) قد اكتفى بإجابته هذه على أسئلته الممعنة في الغرابة والفجاجة إلا أن الأخير سأله:
ـ وهل كنت نائما تلك الليلة بلا غطاء أو لحاف؟
فهز (عجلان) رأسه بالإثبات، وتورم المجلس بصمت على وشك أن تفجره إبر النظرات الحادة لعيون الجالسين في حين استنشق (ابن ريحانة) نفسا عميقا تنهده على شكل زفير منهك ثم قال:
ـ أنت إذن... كنت نائما تحت أديم السماء وقت طلوع نجم (الجبهة).
وهذا الوقت لا يحمد فيه النوم تحت السماء دون لحاف لكونه يغشى النائم بكوابيس مزعجة وخيالات زائفة.

(5)
في ظهيرة أحد الأيام كان (حمود الجوعان) قد ترك إبله في الجهة الشرقية العليا من (وادي الضواري) واتجه متأبطاً بندقيته إلى الجهة الغربية السفلى منه.
وأثناء سيره سمع جلبة ولغطاً على مقربة منه فاندس تحت شجرة صغيرة أطل برأسه من بين أغصانها المتهدلة نحو الأرض فشاهد بعض راعيات الأغنام يغتسلن بمياه أحد الغدران عاريات الرؤوس بملابس ضيقة تصف بعضا من مفاتن أجسادهن الغضة الناعمة.
كن يضحكن بأصوات مرتفعة ويمازحن بعضهن بخضخضة الماء بأرجلهن وأيديهن فاستهواه المنظر وراق له أن يشبع فضوله الرجولي الملح بمتابعته.
ولم تدم متعته طويلا إذ نبحه أحد كلابهن فتنبهن لوجوده تحت تلك الشجرة مما أفزعهن وجعلهن يتسترن ببعضهن حتى أن إحداهن تشجعت على الخروج من الغدير بثوبها المنحسر عن ساقيها وأمطرته بوابل من الحجارة قذفته بها حتى غاب عن النظر وهو يهمهم بضحكاته المقتضبة الخافتة التي لا يسمعها أحد غيره ويقول لاهثاً:
ـ لعنك الله من كلب..!! كشفني لهن..!!
لم يصب (حمود) بأذى من تلك الحجارة التي رجم بها نتيجة استفحاله الشيطاني لكنه تمنى في حينه ألا تكون (ضحى) أو رفيقتها (حشمة) من بينهن فيتسرب خبر تمرده الشهواني إلى عمه (عجلان) وبالتالى ينفضح أمره بين الناس.
وفي مساء اليوم نفسه كانت (شبه نار) كعادة (الجواعين) في بيت (عجلان) فلم يلاحظ (حمود) من ملامح الحاضرين أو كلامهم أي شيء يدل على انكشاف قصته ظهر اليوم مع راعيات الأغنام على الغدير فتأكد لديه أن الأمر قد مر بسلام.
كان القمر بدراً، والسماء صافية إلا من بعض ندف السحب الرقيقة القطنية الخفيفة التي يزيدها نور القمر المتسرب خلالها توهجا في الأفق في الوقت الذي كانت فيه شعلة نار (الجواعين) التي يتحلقون حولها في بيت (عجلان) بعد صلاة العشاء تخبو مكونة طبقات من الرماد المتهالك في (الوجار) تشع من تحته جمرات أوشكت على الانطفاء والخمود.
وانفض المجلس حيث هرع (حمود) إلى سيارته واستقلها متوجها إلى الجهة الشمالية من (وادي الضواري).
كان مترددا بين أن يتوجه إلى (وضَّاح) كعادته في منتصف كل شهر وبين أن يتجول بين ضفاف الوادي للقنص.
وحين توغل في السير باتجاه أقصى الشمال من الوادي لفت نظره تصاعد غبار رقيق على ضوء السيارة وعلى مقربة من (قاع ساق) الذي يقطنه الذئب المعروف.
كان الأمر بالنسبة لحمود وليد اللحظة التي لا تقبل التأخير أو التأجيل حيث أخمد محرك سيارته ونورها، وترجل السير متأبطاً بندقيته بمحاذاة هضاب صغيرة تحيط بالقاع وتمتد بطوله لبضعة (كيلو مترات). لم يشاهد (حمود) آثاراً ذات أهمية أثناء تفحصه لطريقه، فالقاع ذو أرضية متماسكة وليس من السهل ظهور الآثار عليها بشكل يقطع الشك باليقين كما أنه ليس بحاجة للاستعانة بضوء لسطوع القمر واكتماله.
ومع أنه ابن المنطقة ويعرفها شبراً شبراً إلا أنه وجد ـ لحظتها ـ صعوبة في تحديد الاتجاه الذي يجب عليه السير فيه لتعيين هدفه، فالقاع كبير ومنبسط على امتداد النظر والبحث فيه عن شيء أشبه ما يكون بمحاولة البحث عن (إبرة سقطت في كثيب رملي).
شاهد أثناء سيره عددا من الأرانب تقترب منه على بعد خطوات وثعلباً يراوغه عن كثب، وضبعاً هناك مقعياً بهدوء على صخرة لا تبعد عنه أكثر من عشرين متراً.
وبدا له أن هذه المخلوقات ـ على اختلاف أجناسها وطباعها من ألفة وتوحش ـ مخلوقات تتسم بسلوك مهادن ومسالم بشكل أكثر مما كان يتوقعه ويعرفه عنها من قبل.
حينئذ تبادر إلى ذهنه ما سبق أن قاله (ابن ريحانة) ذات ليلة عن سلوكيات المخلوقات في الليالى المقمرة فداخله شعور بارتياح غير طبيعي شك في أنه نتيجة تأثره بما تأثرت به هذه المخلوقات من حوله.
وبعد أن قطع مسافة تبعد ثلاثة (كيلو مترات) عن النقطة التي ترك عندها سيارته انزوى خلف صخرة كبيرة رأى أنها مناسبة لمهمته لكونها تقع على مرتفع هضبة صغيرة يستطيع من خلالها مراقبة ثلثي مساحة القاع على الأقل.
وعلى الرغم من كثرة الصيد إلا أن (حموداً) تجنب تماماً أن يطلق رصاصة واحدة من بندقيته أو أن يقذف مخلوقا بحجر أو أن يصدر حتى مجرد حركة بسيطة تكشف وجوده أو تدل على موقعه.
وتذكر وهو يجيل نظره بالقاع من جميع جهاته ما قاله عمه (عجلان) ذات مرة من أن (قاع ساق) سمي بهذا الاسم منذ زمن بعيد لكون الناس الذين يريدون اجتيازه يشمرون ثيابهم عن سيقانهم مخافة أن تلحق بهم سباعه الضارية أو أن توقعهم فرائس لها.
كان الليل في منتصفه والقمر يتوسط كبد السماء حين اشتاق (حمود) لأن يشعل (سيجارة) يكوي بها لواعج وحشته ووحدته، وما يعتمل بين جوانحه من قلق الانتظار وينداح في عينيه الصغيرتين من سراديب العزلة ودهاليزها المخيفة لكنه أدرك في حينه أنه قد نسى علبة سجائره مع أعواد الثقاب في سيارته عند مغادرته لها. وأَطفأَ توقد روحه وتململ أنفاسه الحرى بتنهيدة خافتة سمع لها دبيبا مبحوحا في الصخرة التي كان يسند إليها ظهره.
لم يكن (حمود) ممن يحقدون على الذئاب أبدا وإنما كان ممن يكرهونها،كما أنه لم يكن ممن يخافونها لكنه كان ممن يحذرونها حذرا جعله أقرب للموت منه للحياة، فهي مخلوقات عدوانية تطارده في أحلامه ويقظته،أكلت بعضا من أفراد عشيرته ومواشيهم، بل بلغت درجة العدوانية بها أن تجعل منه رجلاً محطماً على أعتاب الأربعين يعيش بين أفراد قبيلة اشترطت رؤوس الذئاب والمخلوقات الشرسة مهوراً لبناتها لتزوجيهن من رجال في خريف أعمارهم تقطر من أيديهم الدماء وتفوح من أجسادهم وملابسهم رائحة (البارود) والدخان، وتتعفر رؤوسهم ووجوههم وأرجلهم بتراب الطرقات والكهوف والمغارات الموحشة للبحث عن مخلوقات عدوانية (شبه أسطورية) واقتناصها كـ (هلالة) وثعبان (ريع الدرب الأسود).
إنهم يعرفونها ولا تعرفهم، ويصفونها لبعضهم ويستعصى على أذهانهم أن يكون لوجودها شكل أو لون أو رائحة وتقتلهم ولا يجد حيهم لمقتولهم بقيا من أثر أو دم أو لحم أو عظم ويعيشون لتميتهم إماتة بطيئة بهاجس الموت والهلاك، والخوف من كل شيء.. بل من لا شيء..!!
وعنت لـ(حمود) صورة (ضحى) كما رآها آخر مرة على غدير (وادي الضواري) قبل أيام.
كانت تبدو في مخيلته أقل جمالاً وإشراقاً هذه الليلة مما كانت عليه في الأمس القريب.
وساوره شك ـ للمرة الثانية ـ في أن شعوره غير طبيعي ربما لكون القمر قد بدأ يتزحزح عن موقع سطوعه البدري من كبد السماء إلى جهة الغروب.
واغرورقت عيناه الصغيرتان اللامعتان بدموع سرابية زادها نور القمر وانعكاسه على بياض الطين اليابس للقاع لمعاناً ووميضاً متموجاً، حتى خيل إليه أن القاع بما فيه وما حوله يتحرك على أمواج متلاطمة من سراب (ظهيرة ليلية مقمرة).
هناك على حواف القاع البعيدة أشجار تتحرك وأخرى تنحني فروعها إلى الأرض وثمة هضاب تتداخل ببعضها.
وعلى الجهة المقابلة منه حيوانات مقعية وأخرى باسطة أذرعتها وألسنتها تتدلى لتلغ (سرابا ليلياً) موغلاً في الجفاف والحرقة والعطش.
كان الليل في ثلثه الأخير حين ترك (حمود) الصخرة التي كان ينزوي وراءها متوجهاً لسيارته.
لم يشأ هذه المرة أن يأتي سيارته من مقدمتها، بل التف في الاتجاه المعاكس ليتقدم إليها من مؤخرتها.
ولما أطل عليها من هضبة تحول بينه وبينها رأى بوضوح ذئباً ضخماً باسطاً ذراعيه عند مؤخرتها وثلاثة جراء صغيرة تحت (الدعامة) الخلفية لها يبدو أنها تلغ قطرات الماء التي تتسرب من خزان المياه الحديدي المثبت في هيكلها مكونة عروقا مائية صغيرة متعرجة بين شقوق طين القاع.
لم يكن الأمر مفاجئاً بالنسبة إليه هذه المرة لكنه كان قد تهيأ نفسياً وبدنياً لمواجهة مثل هذه المواقف مهما كانت نتائجها.
حينئذ توقف في مكانه بطول قامته لحظات ثم تابع سيره بتؤده مسددا فوهة بندقيته في اتجاه ما يراه حتى كان على مسافة لا تبعد عن سيارته أكثر من مئة متر، فأقعى خلفها وأسند إليها (سبطانة) بندقيته. كان يرى على (عيار) البندقية المرتكز قرب حافة فوهتها كل ما أراد أن يراه وما كان يحلم برؤيته منذ سنوات.
ذئب (قاع ساق) اللعين كما ينعته عمه (عجلان) وجراؤه حوله يستطيع أن ينظمها جميعها بطلقة واحدة تخترق قلوبها كما تنظم حبات الخرز في الخيط..!!
وساوره شك ـ للمرة الثالثة ـ في أن ما يراه غير طبيعي فهذه المخلوقات تراه كما يراها، بل ربما كانت قد شمت رائحته من بعد قبل أن تراه ومع ذلك لزمت الهدوء والسكون وكأنه ليس هناك ما يعكر صفوها أو يشعرها بالخطر على أرواحها.
أربعة أشياء لا خامس لها تتحد مع بعضها بانسجام برزخي بين الحياة والموت في هذه اللحظة الآنية الحرجة العصيبة ولا يعرف (حمود) غيرها: عقله في رأسه وقلبه في صدره وعينه على مرمى الهدف، وإصبعه على (الزناد).
وتبدو الجراء الصغيرة على (عيار) البندقية لـ(حمود) لاهية ووديعة تلعب بذيولها وتتدلى ألسنتها الصغيرة لاهثة بحثا عن آخر قطرات الماء التي يتشربها الطين بينما يبسط أبوها ذراعيه باسترخاء متهدل يشى بلغط سرابي محموم.
مكث (حمود) في مكانه كما هو قرابة نصف ساعة دون أن يستجد شيء على ما حوله من ساكن ومتحرك.
وتقدم بخطى حذرة مسافة خمسين متراً أخرى في اتجاه الهدف حتى كان على أقرب مسافة منه بحيث يمكنه رؤية هدفه وأدق تفاصيله، بل بلغت درجة اقترابه منه حداً جعله يسمع وقع أقدام الجراء اللاهية على الأرض ولهاث أبيها بأنفاس متقطعة ترتج لها عضلات بطنه بين انقباض وانبساط.
كان القمر يتزحزح ناحية الغرب، وثمة طيور تزقزق في أوكارها على قمم بعض أشجار القاع مبشرة ببوادر الفجر ومولد الصباح الجديد.
وها هو (حمود) يسدد فوهة بندقيته في اتجاه هدفه للمرة الثانية لكنه يرى على (العيار) هذه المرة خيطاً نحيلاً مبهما ينجر في اتجاهه من وراء الذئب، ويتعرج في خطوط غير منتظمة الشكل بين شقوق الطين.
ومع أنه على يقين تام بأن الذئب وجراءه على دراية بوجوده على مقربة منها إلا أنه اصطنع التنحنح وتعمد (طقطقة) سبطانة بندقيته على الصخرة التي يسندها إليها ليكتشف بذلك ردة فعلها الحركية بعد أن أفحمته بسكونها المريب.
وعلى الرغم من ذلك فإنه لم يحفل منها بأكثر من استدارة رقابها إليه بوجوهها المغبرة وألسنتها المتدلية.
وأخيراً نهض من مكانه واتجه نحوها مسدداً بندقيته في اتجاهها حتى كان منها على مسافة بضعة أمتار فاعترضته الجراء الصغيرة التي زادت بأرجلها من تعرجات الخيط المبهم الممتد فيما بينه وبينها.
كانت الجراء تدور حوله بوداعه تلعب بذيولها وأرجلها وتلعق بألسنتها المتدلية شدوقها المنحسرة عن أنياب صغيرة لاتزال في طور النمو المبكر.
أما أبوها فقد كان جاثما في مكانه يحملق فيه بعينين محمرتين وأجفان متورمة بسهاد سرمدي مزمن.
وعلى جانب شدقيه تيبس غبار كان قد التصق بلزوجة لعابه بعد جفافه.
لم يكن من (حمود) لحظتها إلا أن قام بتنحية بندقيته جانبا ملتقطاً أحد الجراء بيديه من على الأرض حيث وجد من خلال تلمسه لقوائمه أن ذلك الخيط المبهم لم يكن سوى خيط من دم قان ينز من جرح بأحد أعضاء أبيه الذي لا يزال باسطاً ذراعيه بانكسار وخنوع لا يليقان بهيبة ذئب (قاع ساق) ولا بعنفوانه الوحشي المكابر ولا حتى باسمه الذي تقشعر له الأبدان لمجرد ذكره.
كانت أشعة الفجر قد بدأت تتسلل إلى الأفق من جهة الشرق في الوقت نفسه الذي كان فيه القمر يتزحزح إلى جهة الغرب مفتقداً جزءاً كبيراً من وضاءته وبريقه في حين كان (حمود) واقفاً بطول قامته وعلى مقربة لا تزيد عن مترين من ذئب (قاع ساق) الجاثم المصاب بجرح بليغ نازف في خاصرته.
كان يريد أن يلمس جرحه لعله يستطيع معالجته أو إيقاف نزيفه على الأقل لكن الذئب أبى أن يمكنه من ذلك لفرط ما يشعر به من ألم ووجع، فالذئاب مخلوقات متوحشة وجراحها أشد منها توحشاً إذ لم تعتد أن تمسها يد البشر منذ أن خلقت حتى وإن كانت بقصد المعالجة والمواساة.
وشاهد حمود بوضوح آثار أقدام ذئَب (قاع ساق) على أرضية القاع من الطين المبتل بقطرات الماء المتساقطة من خزان السيارة، فوجد أنها هي نفسها الآثار التي وجدها عند سيارته قبل عدة أسابيع مضت وجلب نفرا من (جماعته) الجواعين معه لمشاهدتها والتعرف عليها.
كان بإمكان (حمود) أن يقضي على آخر ما تبقى من أنفاس ذئب (قاع ساق) بطلقة واحدة من بندقيته وأن يلحق به جراءه الثلاثة ببساطة متناهية لكنه تراجع عن ذلك كله.
وكان كل ما فعله في نهاية الأمر هو أن قدم للذئب الجريح وجرائه كل ما في حوزته من خبز ولبن وماء وغادر المكان بسيارته وهو يهمهم بضحكته الخفيفة الباكية كعادته:
ـ ذئب (قاع ساق) جريح؟!.. أظن أنك على أعتاب الأربعين مثلي أيها الذئب الهرم.
وهبت نسمات شمالية باردة رفعت لها كلاب الحي في الجهة الجنوبية عقيرتها بالنباح في الوقت الذي كان فيه (عثمان الحنبلي) يرفع صوته الجهوري بأَذان صلاة الفجر.
لقد كان ذلك الخيط الدموي آخر خيط يربط حموداً بذئب (قاع ساق) وبقصته كاملة معه. ولا يريد أن يتمادى في التمسك بالمزيد من الخيوط الدموية اللزجة التي تزيد من التصاق يديه بالدماء وجراحها النازفة من أجل ثأر يدعيه أو شرف يبتغيه أو مهر يؤديه أو امرأة ينكحها.


(6)
لم يخبر (حمود الجوعان) أحداً بموقفه من ذئب (قاع ساق) وجرائه في تلك الليلة، بل كتم الأمر عن الجميع واحتفظ به سراً لنفسه.
كان يخشى أن يكون عرضة للوم والتثريب من قبل (جماعته) وخاصة من قبل عمه (عجلان) وربما انتقدوا تصرفاته ووصفوه بالحمق والغباء والجبن.
وبعد مضي أسبوع واحد على تلك الحادثة كان (حمود) يرعى إبله في الجهة الغربية السفلى من (وادي الضواري) فشاهد في وضح النهار غباراً كثيفاً يتصاعد في الجو من جهة الغرب وسمع جلبة وضوضاء مربكة جفلت لها إبله، وجعلت كلاب الحي ترفع أصواتها بالنباح على غير عادتها.
فارتاب في الأمر واعتلى قمة أحد الجبال ليرى عن بعد رتلا من السيارات والشاحنات والآليات وجموعاً غفيرة من الناس بين راكب وراجل.
وسرعان ما انحدر من الجبل متوجهاً لسيارته فاستقلها قاصداً تلك الجموع حتى توقف على مقربة منها.
رأى رجالا قصار القامة ذوي وجوه مستديرة وعيون صغيرة يرتدون (بنطلونات) ويعتمرون قبعات مختلفة الألوان والأشكال ويبدو من ملامحهم وهيئاتهم أنهم ليسوا من جنس عربي.
حينئذ أطفا محرك سيارته ومشى مترجلاً حتى غاص بينهم.
كانوا يتكلمون مع بعضهم بلغة لا يفهم منها شيئاً، ويحيطونه بنظرات تصاحبها ابتسامات جامدة متكلفة، وإيماءات وإشارات برؤوسهم وأيديهم اعتقد (حمود) أنها تعني الترحيب به.
وعن يمينه وشماله كانت هناك رافعات آلية تحط عن ظهور الشاحنات المتوقفة بسائقيها (تراكتورات) مجنزرة وحفارات وحاويات مغلقة ومعدات وأجهزة وأشياء أخرى لم يشاهد مثلها من قبل.
كان الأمر بالنسبة إليه يبدو وكأنه في حلم لم يستيقظ منه بعد. والتقاه أحد الرجال الذي استطاع أن يتفاهم معه بالإشارات بصعوبة عما يريد حيث أشار إليه بالمشي خلفه بين الشاحنات حتى توقف به عند سيارة واقفة في مؤخرة الرتل الطويل من السيارات والشاحنات المتوقفة أمامها.
كان في هذه السيارة شخصان نزلا إليه عندما رأياه قادما إليهما، أحدهما يبدو من ملامحه أنه (سعودي) يلبس ثوبا ويعتمر (شماغا) و (عقالاً) والآخر مكشوف الرأس ويرتدي (بنطلوناً) يبدو أنه من جنسية عربية أخرى.
والتقى الثلاثة جميعهم فعرفهم (حمود) بنفسه في حين عرفه السعودي كذلك بنفسه قائلاً إن اسمه (عبد الرحمن الحوذي) وهو سعودي مدير مشروع سفلتة طريق الشمال والمشرف على الأعمال الميدانية للشركة (الكورية) المتعاقدة مع وزارة المواصلات لتنفيذه.
أما الآخر فقال إن اسمه (مصطفى الهيري) وهو (مصري) الجنسية مختص بهندسة الطرق ويعمل مساعداً لمدير المشروع.
وسر (حمود) أيما سرور لما لقيه من هذين الشخصين من لطف ومودة وترحيب على الرغم من التقائه بهما منذ دقائق معدودة، وبدا له أنه يعرفهما منذ فترة طويلة.
وكذلك كان شعوره تجاه العمال من حوله الذين يكثرون من تبسمهم له ومن إزجاء تحياتهم له بأيديهم ورؤوسهم وبالإشارات والإيماءات المعبرة.
وانبهر (حمود) وهو يوزع نظراته الفضولية على من حوله من العمال الدائبين بعملهم كخلية نحل، وأدهشه خفة حركتهم ومرونتهم في التعامل مع بعضهم وهدوءهم على الرغم من الصخب والضوضاء والجلبة التي تثيرها الآليات والمعدات والأجهزة المستخدمة.
قال مدير المشروع (عبد الرحمن الحوذي) لـ(حمود) محاولاً امتصاص ما ارتسم على ملامحه من علامات الاستغراب ودهشة الموقف:
ـ منطقتكم ـ يا أخ حمود ـ جميلة ورائعة وستكون أجمل وأروع حين يمر خلالها طريق (مسفلت) يسهم في تطورها ونموها كبقية مناطق المملكة وهذا ما جئنا من أجله أصلاً.
ومع أن (حموداً) لم يستوعب ما قاله (عبد الرحمن) استيعابا كاملا نظراً لبساطته وقصور فهمه في كل ما يمت لهذه الأمور بصلة إلا أنه استشعر من كلامه ما كان كافيا لتبديد دهشته حول كل ما يراه وما يسمعه.
ومن هنا كان الحديث للمهندس (مصطفى الهيري) الذي أضاف قائلاً:
ـ ليس هذا فحسب، وإنما أهل المنطقة رائعون وطيبون أيضا، ونحن يا أخ حمود لا نستغني عن مساعدتكم في عدم إيقافكم سياراتكم أو اتخاذكم المساكن والمنازل على مقربة من منطقة عملنا أو اعتراض مواشيكم من إبل وغنم لأعمال الشركة أثناء تنفيذها لمشروع هذا الطريق.
كان الأمر ـ بالنسبة لحمود ـ يبدو غريبا وغير واضح فهو لأول مرة في حياته يرى ويسمع مثل هذه الأعمال والأقوال وهو وإن كان لا يتقبلها أو يستوعبها بسهولة فإنه يعرف في قرارة نفسه أن الأمر أكبر من أن يرفضه أو يعترض عليه أو حتى أن يبت فيه بشيء من قول أو فعل.
والأستاذ (عبد الرحمن الحوذي) ومساعده المهندس (مصطفى الهيرى) عندما يقولان هذا الكلام لـ (حمود) وأمثاله من سكان منطقة (وادي الضواري) يعرفان من خلال خبرتهما الطويلة وعملهما في مجال الطرق والمواصلات أن سكان البادية مجتمع يصعب التعامل معه بالرسميات أو التعليمات الصريحة والأوامر الإدارية الجادة وليس من السهل إقناع جميع أفراده بين ليلة وضحاها بضرورة التعاون المشترك من أجل مصلحة عامة أو تنظيمه على نحو يمكن الاستفادة منه في منظومة العمل الموحد المتكامل ومجرياتها. قال حمود وهو يهمهم بضحكته الخافتة المعتادة:
ـ ومتى.. ومتى تنتهون من (سفلتة) هذا الطريق؟
فأجابه المهندس (الهيري) ببشاشة وجه:
ـ العقد الذي أبرمته الوزارة مع الشركة مدته خمس سنوات... (تصور) يا أخ حمود ـ خمس سنوات فقط، وستكون منطقتكم متطورة تزدهر على أرضها التجارة والعقار، وتقام على جنبات هذا الطريق الذي تراه محطات الوقود والمحلات التجارية والمخططات السكنية.
ومن هنا تدخل الأستاذ (الحوذي) في الحوار قائلاً:
ـ ليس هذا فحسب، وإنما ـ نحن عمال الشركة ـ لا نستغني عن مساعدتكم في عملنا لتنفيذ جميع مراحل هذا المشروع.
وبدأ (حمود) يدرك من كلام الهيري والحوذي أنه يحظى بأهمية خاصة من قبلهما لكنها لم تتضح له بعد حيث قال:
ـ وبماذا نستطيع مساعدتكم؟
فقال (الحوذي) وهو يلوح بيديه ذات اليمين وذات الشمال :
ـ يعني.. كما ترى يا (حمود) الشركة وأعمالها، فنحن مثلا بحاجة إلى (حراس أمن ليلي) من أهل المنطقة على مخيم الشركة ومرافقها وممتلكاتها من سيارات وأجهزة ومعدات وتموين للحفاظ عليها من السرقة أو النهب والاختلاس.
ولمعت عينا (حمود) الصغيرتان ببريق يوحي بالطمع والرغبة في اغتنام الفرص التي تزيد من أهميته والحاجة إليه حيث قال وهو يتظاهر بالهدوء والتثاقل:
ـ لكن ماذا.. ماذا عن..؟
فبادره (الهيري) بقوله:
ـ آه..!!... نعم!! نعم!!.. تقصد.. ماذا عن المرتب الشهري الذي يتقاضاه كل حارس أمن لدينا في الشركة؟! أليس كذلك؟!.
فهز حمود رأسه إيجاباً في حين قال (الهيري):
ـ ألف وخمسمائة ريال شهريا لكل حارس أمن ليلي يعمل لدينا هنا فضلا عن توفير السكن والإعاشة على أن يتعهد بالعمل معنا لمدة خمس سنوات.
واتسعت حدقتا عيني (حمود) الصغيرتين ورفت شفتاه لهذا العرض المادي المغري بالنسبة لرجل بسيط في مثل حالته حيث قال وهو يبتلع ريقه بشره واضح:
ـ حسناً!!.. حسناً..!! وأنا موافق على هذا العرض من الآن.. وسوف آتي إليكم غداً بأربعة أشخاص آخرين من (جماعتي) ليعملوا معي لديكم في هذه الحراسات كما طلبتم.
حينئذ ضحك الأستاذ (عبد الرحمن الحوذي) مستحسناً ما اتسم به (حمود) من ظرف وطرافة في حركاته وتصرفاته العفوية ثم قال:
ـ لا تستعجل يا (حمود)..!!.. لا تستعجل. نحن باقون معكم هنا خمس سنوات وليست خمسة أيام ومالا نستطيع فعله غدا نستطيع فعله بعد غد أو الأسبوع القادم إن شاء الله..!!.
وأراد (حمود) أن ينصرف لولا أنه تذكر في اللحظات الأخيرة أن عليه واجب استضافة (الحوذي) و(الهيري) وجميع عمال الشركة كما تقتضيه العادات والتقاليد البدوية المعروفة بالكرم والجود والسخاء حيث قال:
ـ لكن.. يا جماعة أنتم ضيوفنا و(الله يحيِّيكم) على العشاء هذه الليلة عندنا!!
وابتسم (الحوذي) وهو يتلفت عن يمينه وشماله ثم قال:
ـ نحن كلنا ـ يا حمود ـ ضيوف لديك بأعدادنا التي تفوق مئة شخص؟!.. لا.. لا.. هذا كثير!!.
ولم يكن من (الحوذي) و(الهيري) في نهاية الأمر إلا أن اعتذرا لـ (حمود) عن عدم قبول هذه الدعوة حاليا شاكرين له كرمه وسخاءه ولطفه ووعداه بأن يلبيا هذه الدعوة مستقبلا عندما تستقر الأمور وينتهي عمال الشركة من نصب الخيام وبناء المساكن وتنزيل المعدات والمؤن في موقع العمل.
وعاد (حمود) أدراجه إلى منازل عشيرته (الجواعين) حيث رأى في طريقه شخصين يعتليان الجبل الذي كان قد انحدر من قمته قبل ساعتين مضتا عرف أنهما (منصور البو) و(ملحان الورطة) اللذان كانا يراقبان عن بعد باستخدام (الدربيل) منظر الشركة ومعداتها وآلياتها وعمالها المنتشرين في كل اتجاه فأومأ لهما بيديه ومضى في طريقه حتى توارى عن نظريهما.
وفي مساء تلك الليلة كانت (شبة النار) في بيت (عجلان) فاجتمع (الجواعين) لديه حيث انصبت أحاديثهم ومسامرتهم على الشركة وعمالها وأهدافها في المنطقة واحتدم الحوار والنقاش بين الحاضرين من مؤيد ومعارض حيث قال الشيخ (محسن):
ـ يا (جماعة الخير).. الحكومة (أبخص) وأدرى بمصلحتها ومصلحتنا جميعاً. وهذا الطريق الجديد على الأقل يريحنا ويريح سياراتنا من الجبال والأودية التي تعترض طريقنا بين كل حين وآخر وتجعلنا نقطع مسافات طويلة وشاقة للوصول إلى الأسواق والدوائر الحكومية المجاورة.
هذا غير ما نعانيه من مشقة هذا الطريق غير (المسفلت) حين نقصد (المدينة) و(مكة) في موسم الحج من كل عام.
وأبدى (ملحان الورطة) تبرمه واستياءه من الوضع الذي تشهده المنطقة إثر نزول الشركة على أرضها البكر حين قال:
ـ والله (هالخواجات) يُخِّوفون يا (جماعة).. حلوا في أرضنا وانتشروا فيها مثل الجراد يأكلون الأخضر واليابس، يهدون الجبال ويقطعون الأشجار ويشردون إبلنا وأغنامنا من المراعي وموارد المياه.!!
ونبذ (منصور البو) فنجان القهوة الذي كان يرتشفه جانبا ثم قال بامتعاض:
ـ لا.. ليس هذا فحسب، وإنما أتوا أيضا على بعض أملاكنا المأثورة في المنطقة، فالطريق الجديد يخترق (وادي الضواري) من ضفتيه وأنا رأيت اليوم ـ أنا وملحان ـ حين كنا (نمد) (الدربيل) أن علامات الطريق التي يضعها عمال الشركة تمر ببئر (المرحوم والدي) الواقعة في الناحية الغربية من الوادي ولا يمكن أن أسكت عن هذا الأمر مالم أطلب تعويضا من الدولة بذلك.
كان (متعب الفطين) أثناء ذلك كله مشغولاً بين الجالسين بتدوير موجات (الراديو) لعله يتمكن من التقاط موجة (إذاعة الرياض) فربما عثر من خلالها على نبأ يتعلق بـ (سفلتة طريق الشمال) الجديد.
أما (ابن ريحانة) فقد نأى بعينيه عن السماء إلى وجوه الحاضرين قائلاً بصوت موغل في التأمل:
ـ إذن.. إذن صدقت رؤياك ـ والله ـ يا (عجلان)!!
وأحجم الحاضرون عن الكلام لما قاله (ابن ريحانة) وظلت عيونهم شاخصة إليه لحظات لم تدم طويلا حيث سأله (ملحان) بتهكم غير مستغرب منه:
ـ ما فهمنا شيئا مما تريد قوله يا (ابن ريحانة)!!
وحك (ابن ريحانة) مقدمة رأسه الأصلع من تحت (شماغه) ثم مضى يقول:
ـ أقصد أن ما رواه (عجلان) لنا عن قصة التهام ثعبان (ريع الدرب الأسود) لسلوقيه (نبهان) في تلك الليلة كان حلما ولم يكن واقعاً.
فجحظت عينا (عجلان) غضباً والتمعتا ببريق فضي قدح في وجهه الهرم الرمادي شرارة لشباب انطفأت وضاءته منذ زمن بعيد.
وضج المجلس بصخب فوضوي بين ضحكات خافتة وهمسات مستنكرة ونظرات ساخرة مستفزة.
وفي محاولة لاستعادة وقار المجلس ورزانته من جديد أضاف (ابن ريحانة) على الفور قائلاً:
ـ مهلاً..!! مهلاً يا (جماعة)..!!.. لم أكن اقصد أن (عجلان) كاذب، ولكنني أقصد أنه متوهم للحقيقة فمن يتوهمون الحقيقة ـ أحياناً ـ غير أولئك الذين يدعونها.
يعني ـ ببساطة ـ أن (عجلان) كان نائما تلك الليلة فرأى ثعباناً أسود.. أليس كذلك؟!!
فهز الجالسون رؤوسهم في حين أضاف (ابن ريحانة) قائلاً:
ـ هذه رؤيا حكاها لي أكثر من شخص من أهل المنطقة خلال أزمنة متفرقة سابقة ولم تكن مقصورة على (عجلان) وحده.
وتفسير هذه الرؤيا هو (طريق الشمال) الذي ترون الشركة مشغولة حاليا بتنفيذه وسفلتته.

(7)
ها هو (حمود الجوعان) يتردد بسيارته (الجيب) بين (وادي الضواري) وسوق (شمالات) طوال أيام الأسبوع الماضي حاملاً معه كل يوم قطيعاً من أغنامه وبعضاً من إبله لبيعها بالجملة بعد أن عزم على ترك البداوة ومتاعبها والعمل حارسا ليليا مرفها لدى الشركة بمرتب شهري وبدلات رآها مجزية بالنسبة لرجل في مثل حالته، ووضعه الاجتماعي البسيط.
ويبدو أن فكرة الهجرة (المؤقتة) هذه من البادية إلى الشركة قد استهوت بعضا من أبناء قبيلته والقبائل الأخرى المجاورة لها فحذوا حذوه حيث استقبلت الشركة أثناء ذلك وخلال الثلاثة أيام الأولى من إعلانها طلبات توظيف تفوق عشرين طلباً كان من بينها طلب لـ (مطيع الذراع) وآخر لـ(ملحان الورطة) في حين فضل بقية أفراد عشيرة (الجواعين) البقاء على بداوتهم وعزلتهم وعدم الاندماج في مجتمع يرون أنه غريب عنهم في تركيبته ونظامه ونمط حياته وعاداته وتقاليده.
وفي اليوم الأخير من وقوف (حمود) بأغنامه في السوق رأى رجالاً يشاركونه خوض معركة السوق الحامية بين بيع وشراء وآخرين يجأرون بأصواتهم (للتحريج) على بضائعهم المتكدسة على جنبات الطريق وأرصفته وهياكل السيارات بشكل لم يسبق له أن رآه.
قال في نفسه وهو يهمهم بضحكته الساذجة المعهودة:
ـ مساكين..!!.. كلكم تريدون أن تكونوا موظفين لدى الشركة..!!.. تبيعون ولا تشترون وتَتَوظَّفون ولا تُوظِّفون..!!
وعلى الجهة الأخرى من السوق رأى نساء جميلات يتجولن بين المحلات التجارية يساومن الملابس والعطورات وأدوات التجميل.
كان يود أن يقترب منهن، أن يحادثهن، أن يمازحهن، أن يغازلهن، ويزداد فتنة وجنوناً وهياجاً شيطانيا حين يرى إحداهن وقد انحسر كم ثوبها عن ذراع بض ناعم أثناء تقليبها للأقمشة المعروضة على واجهات المحلات أو تلك التي تتلاعب نسمات الشمال العابثة بـ(برقعها) لتكشف عما تحته من ثغر رماني يكتنف بَرَداً ربيعيا دافئاً.
كان يود أن يشتري لـ (ضحى) فستاناً حريرياً أو زجاجة عطر نسائي، أو خاتما كعادته حين يقصد السوق في كل شهر، كان بوده أن يفعل هذا كله وهو يتجول بين مرافق السوق وقد نسى أو (تناسى) سيارته المتوقفة بما عليها من أغنام جاء ليبيعها قبل نهاية النهار.
لقد كان بائساً هذه المرة، تعيسا كئيباً ينظر في وجوه المارة من حوله وهو يشيعهم بابتسامات جريحة كمريض يحتضر على فراش الموت.
ورأى في دكان العطارة المقابل له بعد رصيف الطريق الرئيسي للسوق إحداهن وكأنها ليست بغريبة عنه، كان بينه وبينها بضع عشرات من الأمتار يتخللها أناس يدخلون ويخرجون بشكل عشوائي غير منظم.
كانت تسترق النظر إليه بعين واحدة ونصف وجه ينزوي نصفه الآخر خلف أحد أعمدة المحل الطينية بطريقة توحي بحذر مريب.
لم يأبه كثيرا بالأمر في أوله لكن ما أثار تطفله وفضوله هو نصف ذلك الوجه ذي العين الواحدة الذي لم يستطع استكمال رؤيته على الرغم من تغييره لزوايا النظر إليه عدة مرات: يمينا، شمالاً، أمام، خلف.. لا فائدة!!
لقد أحس وكأن ذلك (النصف الوجهي) يتدلى عليه بخيط من السماء عبر شق ضيق ذي اتجاه واحد شُقَّ في سقف غرفة مظلمة.
وتقدم (حمود) يخف الوطء في اتجاه ذلك (النصف الوجهي) الذي لازال يراوغه بين ظهور باهت وانزواء غامض، ويزيد غموضه وتبعثر ملامحه قطعة من قماش حريري تؤرجحها لفحات الهواء، ونفر من الناس الداخلين والخارجين من المحل يحجبه عن مجال الرؤية لثوان تطول وتقصر أحياناً.
وسمع وهو على مقربة من باب المحل ـ أو كما يبدو له ـ همساً خافتاً يتسلل إلى سمعه من فتحة مواربة على يمينه داخل المحل غير مطلة على الشارع:
- (ضحى)..!!.. (ضحى)..!!
وهنا ثبت في مكانه واقفا بطول قامته مندهشاً كمن ضل طريقه عند مفترق الطرق، فهو لا يدري على ماذا يركز بحواسه..؟.. على ذلك (النصف الوجهي) الذي يتراءى له من وراء العمود الطيني؟ أم على هذا الصوت الهامس الأجش الذي يخاتل سمعه كذئب جائع يهادن فريسته بين خوف منها ورجاء لها؟
وسرعان ما قطع صاحب المحل على (حمود) دهشته وانبهاره حين سأله:
ـ خير إن شاء الله يا أخ!!.. (فيه شيء)؟!
ولم يجبه (حمود) على سؤاله حيث مضى بالتلفت في زوايا المحل ذات اليمين وذات الشمال، والطوفان من وراء العمود الطيني حتى كاد يلج تلك الفتحة المواربة لولا أنه وجدها كوة غير نافذة لا تتسع لأكثر من شخص واحد ولا يوجد فيها سوى بعض الأقمشة المخزونة والزائدة عن بضاعة المحل المعروضة للزبائن.
حينها غادر المحل غير مبال في الوقت الذي كان صاحبه ينظر إليه نظرات مستهجنة لم يعرها (حمود) اهتماماً معتبراً.
وأخذ وهو في طريقه لسيارته يستعيد بذاكرته ذلك (النصف الوجهي) الذي يسترق إليه النظر من وراء العمود، ويحجبه عن استكماله لرؤيته أولئك الداخلون والخارجون من المحل وتلك القطعة الحريرية من القماش التي تتلاعب بها تيارات الهواء وذلك الصوت الهامس الذي لازالت آثار دبيبه منقوشة في سمعه كآثار دبيب النمل على أرضية (قاع ساق) الطينية اللينة، فلعله يستطيع استحضار ملامحه او استكمالها لكن دون جدوى..!!
واستخرج من جيبه سيجارة فأشعلها على عجل ثم قال وهو يهمهم بضحكته الباكية السمجة:
ـ (ضحى)..!! لا.. لا.. (ضحى) لا يمكن أن تأتي إلى الأسواق أبداً!!
.. سامحيني يا (ضحى) فلن اشتري لك فستاناً ولا عطرا ولا خاتما هذه المرة!!.. اشتريها أنت بنفسك، أو فلتبعثي من يشتريها لك غيري!!
ووجد لدى رجوعه لسيارته كثيرا من سيارات الشحن المتوقفة هنا وهناك دون ترتيب ولا تنظيم وبما عليها من إبل وغنم وعلى مسافات قريبة جداً من بعضها بحيث لا يتسع المجال لعبور المشاة والجوالين ومرتادي السوق فيما بينها لأكثر من شخص واحد أو اثنين.
ويسود جو السوق الجلبة والضوضاء والصخب الناجم عن زمجرة (المُحرِّجين) على بضائعهم واختلاطها بقرع منبهات السيارات ورغاء الإبل وثغاء الأغنام، مع تصاعد غبار رقيق تثيره أرجل المارة وأدخنة السجائر وروائح الأطعمة والمشروبات الساخنة التي يعدها سائقو السيارات المتوقفة لأنفسهم على (الدوافير) أو (البوتاجازات) الغازية الصغيرة.
والتقى (مطيع الذراع) و(ملحان الورطة) في خضم السوق ومضوا يتجاذبون أطراف الحديث فيما بينهم.
قال (ملحان) وهو يغمز بإحدى عينيه خفية لـ (حمود):
ـ (مطيع) مستعجل يريد أن يبيع كل شيء!!
فقال (حمود) بخبث:
ـ لكن.. أنا أراهنه من (ذبيحة) إذا عرف ماذا سوف يشتغل لدى الشركة؟
فانتفض (مطيع) لهذا الرهان العارض المفاجئ وزم شفتيه وتقلصت عضلات وجهه حتى ضاق ما بين حاجبيه ثم قال وهو متردد بين قبول الرهان ورفضه:
ـ ماذا..؟.. ماذا أشتغل؟
وفكر قليلاً ثم قال بطريقة لا تخلو من الريبة والشك:
ـ سأقول لك ولكني أريد شاهداً على الرهان غير (ملحان).
فضحك (حمود) و(ملحان) ثم ناديا لرجل من السوق على مقربة منهم جميعاً وأخبروه بما يريدون ليكون شاهداً حاضرا على رهانهم حيث قال (مطيع):
ـ أعمل (حارس ليل).
فضحك (ملحان) وشاركه (حمود) بضحكة كاد يستلقي لها على ظهره حتى بدت آخر نواجذه المسودة.
وحين أفاق منها قال بنبرة مستفزة:
ـ (حارس ليل)؟!.. أنت تحرس الليل يا (مطيع)؟ أم تعمل حارساً ليلياً تحرس الشركة؟..لا.لا. خطأ.. هذا خطأ!!
فزمجر (مطيع) غاضباً وأرعد وأزبد حين شعر بخسارته للرهان بينما انصرف الشاهد وتركهم خلفه يتجادلون وهو يرفع بصره للسماء ويقول بأسف:
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله!!
وحين أزف غروب الشمس انفض السوق وافترق مرتادوه وخمدت أصوات الباعة والمتجولين.
كانت (شبة النار) هذه الليلة في بيت (عجلان) حيث اجتمع القوم بعد صلاة المغرب يتسامرون كعادتهم ويحتسون حول نارهم فناجين القهوة والشاي التي يطيب لهم احتساؤها بعد عناء يوم شاق قضاه معظمهم في فلوات (وادي الضواري) بين الإبل والغنم وموارد الماء. حينئذ قال الشيخ (محسن):
- نريد أن نرحل يا (جماعة) عن منزلنا هذا فالشركة مزعجة وأغنامنا وإبلنا تنفر وتجفل كثيراً من (مراحها)(*) ومباركها في الليل كلما سمعت (تراكتورات) الشركة وحفاراتها المدوية.
ولم يبد أحد من الجالسين اعتراضاً مبدئياً على ما قاله الشيخ (محسن) باستثناء (ابن ريحانة) الذي حك مقدمة رأسه الأصلع، ثم قال وهو يحملق في السماء:
- هذا وقت طلوع نجم (الهقعة) يا شيخ (محسن).
ثم التفت يمينه ويساره للحاضرين وأضاف قائلاً:
- يستحسن أن نؤخر الرحيل لعشرة أيام حتى يغيب هذا النجم.
فالجو حار ـ كما ترون ـ والسموم حارقة خاصة في النهار مما يزيد المشقة علينا.
وهبت عاصفة ترابية شمالية خفيفة رافقتها لفحة سموم جافة أثارت قلق الإبل في مباركها حول البيوت، ونفور الأغنام في حظائرها المتخذة من أغصان الشجر، وبعض أكياس الشعير الفارغة.
وبعد لحظات سمع عواء خافت يتسلل من الجهة الشمالية للوادي ويتناغم إلى حد الاندماج مع صوت عواء الريح في أطناب البيوت وأغصان الشجر مما جعل كلاب (الحي) تجس نبض هذا العواء بحساسيتها المفرطة وترفع نباحها على نحو لا تطمئن له أذن من يسمعه.
وغمغم (حمود) من تحت (شماغه) الذي لفه حول فكيه وفمه وأنفه اتقاء ذرات الغبار المتطايرة ودون أن يتنبه إليه أي من الحاضرين قائلاً:
ـ إيه..!! ياذئب (قاع ساق).. عواؤك أعرفه كما هو لم يتغير..!! تعوي قبل رحيل القوم وستعوي كثيراً بعد رحيلهم!!. كان وقت العشاء قد دخل حين هدأت العاصفة فرفع (عثمان الحنبلي) صوته بالأذان ودلف الحاضرون للمسجد. وبعد فراغهم من أداء الصلاة عادوا إلى بيت (عجلان) لاستئناف المسامرة وتناول طعام العشاء كما اعتادوا عليه.
وهنا لمح (منصور البو) للحاضرين بضرورة الاستعداد للرحيل وتجهيز السيارات آخر الأسبوع القادم لتحميل (بيوت الشعر) و(الخيام) والأمتعة وبعض المواشي غير القادرة على السير للمكان الجديد المقترح للنزول، ألا وهو أعلى (وادي الضواري) وعلى مسافة لا تقل عن خمسة عشر (كيلومتراً) من الشركة.
ومن وراء (القاطع) الذي يفصل مجلس الرجال عن حرم البيت كانت (ضحى) وصاحبتها (حشمة) تسترقان السمع، وتتناوبان على مراقبة الطعام على النار كلما احتدم النقاش والجدل بين الجالسين المتحلقين حول نارهم وخاصة عندما تنخفض أصواتهم وتتحول إلى (وشوشات) وهمسات لدى تطرقهم لقصص النساء والزواج.
كانت هذه المرة نوبة (ضحى) في استراق السمع حين سمعت (متعب الفطين) يسأل (حموداً) و(ملحان) و(امطيعاً) أمام الحاضرين عن أسعار الغنم والإبل والأعلاف. حينها أشعل (حمود) سيجارته ثم قال:
ـ والله... أسعار الغنم وسط بين الرخص والغلاء، أما العلف فاسأل عنه غيري لأنني لن أعلف بعد اليوم.
وكذلك كانت إجابة (ملحان) و(مطيع) اللذين لم يزيدا شيئا على ما قاله (حمود) سوى أن كلا منهما يفكر في استبقاء عدد قليل جداً من غنمه وإبله ودائع لدى الشيخ (محسن) بخلاف (حمود) الذي باع غنمه وإبله كلها بدليل قوله بأنه (لن يعلف بعد اليوم).
ولطمت (ضحى) وجهها بكفها لطمة خفيفة كانت كافية لتنبيه (حشمة) إليها عند قدر الطعام، حيث خفت الأخيرة مشيتها في اتجاه (القاطع) الذي تنزوي بمحاذاته (ضحى) قائلة بصوت خافت جداً:
ـ ما بك يا (ضحى)؟.. خير إن شاء الله!!
فأجابتها وهي تنأى بنحرها عن (القاطع) قائلة بقلق:
ـ يا (خسارة) يا (حمود)!! ضيعت كل شيء!!

(8)
في صباح هذا اليوم احتشد ما يقارب العشرين شخصاً من أبناء البادية أمام البوابة الرئيسية للشركة في مقرها الواقع في الجهة الغربية السفلى من (وادي الضواري) لمقابلة المسئولين واستكمال إجراءات قبولهم على وظائف (الحراسة الليلية) للشركة ومرافقها مصطحبين معهم بعض المستندات والإثباتات الشخصية اللازمة لتسجيلهم.
كان الجو معتدلاً بين البرودة والحرارة، والشمس لا تزال في ساعات شروقها الأولى.
وكانت الشركة تبدو للناظر إليها ـ وللوهلة الأولى بما فيها وبمرافقها وعمالها ـ وكأنها خلية نحل متكاملة، منظمة ومرتبة وضع كل شيء فيها في مكانه الصحيح بعنايه .
يتبـــــــــــــــــع







من مواضيع في المنتدى

التوقيع :
آخر تعديل ابوعبدالمجيد1 يوم 05-17-2010 في 12:48 PM.

رد مع اقتباس